قيمة الاعتذار.. سلعة الزمان النادرة
![](https://mugtama.com/storage/uploads/9NN8ZQDlKTdipYpptzdvtnmz2ZGXmOjT9C50VtUE.jpg)
تظل الأخلاق والحديث عنها ميدانا خصبا للكتابة دائما، فآفاقها رحبة، يأتي في ضمنها ثقافة الاعتذار والتراجع عن الخطأ والزلل.
تتراجع هذه الثقافة يوما بعد يوم، وتقل أو تندر بين الأجيال الجديدة وفقدت معالمها في معظم المجالات، وأصبح التراجع عن الخطأ بالاعتذار أو طلب المسامحة شيئا نادرا، ويصعب على كثير من النفوس اللجوء إليه، ولا بد من رصد اختفاء تلك القيمة في كثير من مجالات حياتنا.
وسائل التواصل الاجتماعي في محل الاتهام
لقد أصبح لوسائل التواصل الاجتماعي دور خطير في التأثير على القيم، فعلى صفحاتها ظهر أناس طارت شهرتهم، فتأسس في عقلهم الباطن أنهم أصحاب رؤية مكينة، فغدا كثير منهم يكتب حقا وزورا، وينطق صوابا وخطأ، وأصبح على متابعيه أن يكون معه في حقه وزوره، صوابه وخطئه، وعز أن تجد منهم مشهورا اعتذر عن مقالة تبين له خطأ ما تضمنته، أو أظهر أسفه على منشور وقع فيه الزلل.
هذه الثقافة الخاطئة استمكنت بصورة مذهلة بين هؤلاء، وأصبح مجرد التعقيب والنقد يقابل بنوع من السخرية والاستهزاء، فضلا عن تطلب منهم اعتذارا، لقد أصبحت الأخطاء في تلك الوسائل تخرج من صاحبها خروج العرق على الجبين في اليوم الصائف، ويقف كثير من المتابعين على أخطاء هؤلاء، وحين يواجهونهم بها، فإنهم يأنفون كبرا، أو يخشون من الاعتذار خوفًا من ردود الفعل، أو التنمر عليهم.
الخلل في بعض المفاهيم
تلعب المفاهيم القيمية دورا مهما في ترسيخ ثقافة الاعتذار عن الخطأ، فإذا تبدلت المفاهيم اعتبر التمسك بالرأي وعدم الاعتراف بالخطأ قوة وشجاعة، ومقابله نوع من الانهزام والاستسلام، ولا شك أن من رسخ في نفسه أن التراجع بالاعتذار انهزام واستسلام لا يمكن أن يلجأ للاعتذار.
وبعض المجتمعات لا تشجع الأفراد على ثقافة الاعتذار، من المنزل، لبيئات التعليم والعمل، وينعدم انعداما في وسائل المواصلات في بعض المجتمعات، تداس أجساد وتهان نفوس ثم لا تجد نفسا تعتذر عما بدر، وهذا يجعل الاعتذار أمرًا غير مألوف وصعبًا.
لكننا لا نغفل عن أن نفوس بعض الناس لا تتحلى بالاعتذار عن الخطأ إذا بدر منها، بعامل الكبر والأنانية، فالشخص المتكبر يرى نفسه فوق الخطأ، ويجد صعوبة في الاعتراف بأن ما قاله أو فعله أو انتهجه من قبيل الخطأ، وقد يرى أن الاعتذار يعني فقدان شيء من الاحترام والسلطة، أو يعرضه للمسائلة والمؤاخذة.
كذلك نجد الأنانية والانتشاء بالذات إحدى مدعمات التخلي عن الاعتذار، فكثيرون يميلون إلى التركيز على أنفسهم ومصالحهم الشخصية، وقد يتجاهلون مشاعر الآخرين وخطئهم نحوهم، وقد يلعب التبرير الزائد دورا في إلغاء ثقافة الاعتذار، فيبرر خطأه بخطأ الآخر، أو ينسب خطأه لعدم القصد، ليعفي نفسه من الاعتذار.
عواقب ومآلات
أصعب ما في ترك الاعتذار هو عملية كسر النفوس، وتحطيم الأرواح، وهدم القمم التي تكون شامخة، فالقلوب إذا كُسرت أو خُذلت لا تعود كما كانت، وبعض من جرحت نفوسهم ينزون وتظل نفوسهم تنزف في صمت وألم، مما حدث لهم من المتطاولين، فبعض الكلمات تترك جراحا غائرة أقسى من ضربات السيوف، وبعض من يُجرح بذلك ممن لا يعتذر، إذا ابتسم فإنه يبتسم ابتسام المحروق الذي لا تهدأ فيه النار.
من مآلات ترك الاعتذار أن نفسه قد تقوده للهلكة في موقف ينبغي أن يتراجع فيه، ولكنه يهلك حيث لم يتعود التراجع، ولم يألف الاعتذار، فتأخذه العزة بالإثم حين تلوح الهلكة، فيقع فيها أحوج ما يكون بحاجة للتراجع، ولكنها النفس التي استعصت عليه أن يقهرها بالاعتذار، فتأبت عليه في مواقف الهلكة أن يتراجع.
القيمة العليا للاعتذار
إن ثقافة الاعتذار عن الخطأ للناس تشبه قيمة التوبة إلى الله، التي تجب عقب الذنب، ومع الفارق في الحالتين، فقد يحدث في حق الله تعالى عفو ومسامحة، ولكن حق النفوس لا يسقط أبدا، والله تعالى يقول: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وهل الاعتذار عن جرح النفوس أو الأرواح ينبع إلا من نافذة الإحسان؟!
إن الاعتذار عن الخلل والخطأ في القول، أو الفعل، أو الفكر هو دليل على قوة النفس وشجاعتها، والتاريخ الإسلامي يحفظ الكثير من تجليات ممارسة هذه القيمة، وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام([1]).
قال الجوزجاني: النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد، فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى([2])
توطين ثقافة الاعتذار
إن توطين ثقافة الاعتذار تبدأ بانتهاج المثل العليا في بيوتنا، بأن نربي أطفالنا عليها، وتغيير المفاهيم الخاطئة بأن الاعتذار ضعف، وكذا مؤسساتنا لا ينبغي بألا تتحول ضرورة الاحترام إلى هوى متبع، بحيث تُطلب في الحق والباطل، كذلك تشجيع ثقافة الاعتذار عن الخطأ في بيئات العمل بين المديرين والقادة، ليقتدي بهم من تحتهم من الموظفين.
من أخلاق السابقين في التراجع الذي يشبه الاعتذار
كان الشافعي جالسا يوما بين يدي مالك بن أنس، فجاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله، إني رجل أبيع القُمْرِيّ([3])، وإني بعت يومي هذا قُمْرِيًّا. فلما كان العشي أتاني صاحب القمري فقال: إن قمريّك لا يصيح، فتشاجرت أنا وهو، إلى أن حلفت بالطلاق أن قمريّ ما يهدأ من الصياح. فقال مالك: طُلقت امرأتك، ولا سبيل لك عليها، فانصرف الرجل مغموما، فقام إليه الشافعي - وهو ابن أربع عشرة سنة - فقال: أيّما أكثر: صياح قمريك، أم سكوته؟ فقال: صياحه. قال: امض فلا شيء عليك، فرجع الرجل إلى مالك، فقال له: إن في حلقتك من أفتاني بأن لا شيء عليك. قال: مَنْ المفتي لك؟ قال: هذا الغلام، وأومأ إلى الشافعي، فَزَبَرَهُ مالك وأخْجَله وقال: يا غلام: بلغني عنك غير فتواي، فمن أين لك هذا؟ قال: لأني سألته: أيّما أكثر صياح قمريك أم سكوته؟ فأخبرني بصياحه. فقال مالك: وهذا أعظم، أيّ شيء في سكوته وصياحه مما يكون مخرجا للفتوى؟ قال: لأنك حدثتني أن فاطمة بنت قيس: أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أبا جَهْم ومعاوية خطباني، فأيّهما أتزوج؟ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: أما «معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فرجل لا يضع عصاه عن عاتقه». وقد علم النبي، صلى الله عليه وسلم، أن أبا جَهْم يأكل وينام ويستريح، فقال لها: لا يضع سوطه على المجاز، والعرب تجعل أغلب الفعلين كمداومته. فلما أن سألتُه: أيّما أكثر: صياح قمريك أو سكوته؟ فأخبرني بصياحه. فقسته على قول النبي، صلى الله عليه وسلم: «لا يضع سوطه» وعلمت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، خاطب العرب على قدر عقولهم، وجعلوا أكثر الفعلين كمداومته. قال: فتعجب مالك بن أنس من قوله، ولم يقدح فيه بشيء، فضرب مسلم بن خالد الزّنجي بين كَتِفي الشافعي وقال: أفتِ فقد والله آن لك أن تفتي([4]).
([1]) متفق عليه.
([2])إحياء علوم الدين:3/ 343.
([3]) طائر حسن الصوت.
([4])مناقب الشافعي، للبيهقي:2/ 238.