13 فبراير 2025

|

من وسائل الاستعداد لرمضان.. صلة الرحم

 

 

وفي إطار الاستعداد النفسي لدخول شهر رمضان المبارك، وتطويع النفس على حب العبادة والتقرب إلى الله عز وجل، وتطهيرها من أدرانها لتكون على أفضل ما يكون، نستهل الأشهر المباركة، نتخير من بين أكثر الأعمال التي تزكي النفس، إنها "صلة الأرحام"، وهي من أحب الأعمال إلى رب العالمين، وهي واجبة عليه تجاه رحمه، كما هي حق له منهم، فعليه أن يصلهم، وعليهم أن يصلوه ، ومن أهمية ذلك العمل أن جعله الله عز وجل سببا للكثير من النفع العائد على العبد في الدنيا والآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (رواه البخاري)، وقد اهتم كتاب الله بمسألة صلة الأرحام وشدد عليها وأشاد بفاعليها وشدد على قاطعيها، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) (الرعد: 21)، وفي التفسير أن هذا عام بكل ما فيه وصل لله عز وجل، من عمل لله ومن صلة أرحام فيه، وقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ) (محمد: 22- 23)، وفي هذه الآية الكريمة قال الإمام الطبري، رحمه الله تعالى: "هؤلاء الذين يفعلون هذا، يعني: الذين يفسِدون ويقطعون الأرحامَ الذين لعنهم الله، فأبعدهم من رحمته فأصمَّهم، بمعنى: فسلبهم فَهْمَ ما يسمعون بآذانهم من مواعظ الله تعالى في تنـزيله، وأعمى أبصارهم بمعنى: وسلبهم عقولَهم، فلا يتبيَّنون حُجج الله سبحانه، ولا يتذكَّرون ما يرون من عِبَره وأدلَّته" (1).

 

وكما اهتم القرآن الكريم بصلة الرحم، فكذلك اهتمت السنة النبوية بتبيين فضل ذلك الخلق العظيم في الإسلام، فعن أمِّ المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "الرَّحمُ معلَّقةٌ بالعرش تقولُ: مَن وصلني وصله اللهُ، ومَن قطعني قطعه اللهُ" (رواه مسلم)، وعن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله خلَق الخلْقَ، حتى إذا فرغ من خلقِه قالتِ الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائذ بك من القطيعة، قال: نعَم، أمَا تَرضَيْنَ أن أصِل مَن وصلَكِ، وأقطعَ مَن قطعَكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ، قال: فهو لكِ"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "فاقرأوا إن شِئتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد: 22) (رواه البخاري ومسلم).
وصلة الأرحام كانت صفة مستحبة عند العرب قبل الإسلام، بها يتفاخرون، ويمجدون بعضهم بعضا بقدر ما يتحلون به منها، فكان مما أطرت به السيدة خديجة رضي الله عنها حين نزول الوحي على نبي الأمة، وحين ظن بنفسه سوءا قولها: "كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ" (رواه البخاري)، فقد كان عليه الصلاة والسلام يهتم برحمه ويوصي بهم ويساعدهم ماديا ومعنويا.. قبل الإسلام وبعده.

 

ما هي صلة الرحم؟

 

صلة الرحم لغةً: "الصلة في اللغة ترجع إلى المصدر اللغوي "وَصَلَ"، والجمع منها صِلات، وتُقصَد بها عدّة مَعانٍ، منها: الشيء الذي يُعطى، والجائزة، والبِرّ والإحسان، والعلاقة التي تربط بين اثنين، أو أكثر، وتجمع بينهم" (2)، "أمّا الرحم في اللغة، فهو: موضع استقرار الجنين في بطن الأم، ويُقصَد بالرحم أيضاً: القرابة، وأسبابها، وإن قِيل: ذو رحم؛ أي ذو قرابة" (3).

 

أما صلة الرحم اصطلاحاً "فتُطلق على من تجمع بينهم القرابة، ويُحرَّم النكاح فيما بينهم، وبناءً على ما سبق فإنّ أبناء الأعمام، وأبناء الأخوال، لا يدخلون في مُسمّى الأرحام، وقِيل إنّ الرحم لَفظٌ يُطلَق على مَن بينهما ميراثٌ، وقِيل بل على كلّ مَن تجمع بينهم قرابة، سواء أكان أحدهما يَرِث الآخر، أم لا يَرِثه. وتدلّ صلة الرحم أيضاً على الإحسان إلى الأقربين، سواءً كانت هذه القرابة بالنسب، أو المُصاهرة، والعطف عليهم، وتفقُّد أحوالهم، سواءً قابلوا ذلك بالإحسان، أو بالإساءة، ومن الجدير ذِكره أنّ صِلة الأرحام تكون بحَسب حال كلا الطرفَين، وما يحتاج إليه الطرف الآخر؛ إذ إنّها قد تكون بالمال، أو تقديم الخدمة والمساعدة، أو الزيارة، أو رَدّ السلام، أو تقديم النصيحة، أو المسامحة، والصفح عن الإساءة، أو بشاشة الوجه، وما إلى ذلك، بحسب قدرة الواصل، وحاجة الموصول، ومصلحة كلٍّ منهما" (4).

 

فضل صلة الرحم

 

لصلة الأرحام فضائل عظيمة، منها ما يعود على الفرد في الدنيا، ومنها ما يعود عليه في الآخرة، ومن هذه الفضائل:

 

1 - أنها سبب لدخول الجنة: 

فعن أبي ايوب الأنصاري، رضي الله عنه، أنه قال: "أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، فَقالَ القَوْمُ: ما له ما له؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرَبٌ ما له فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وتُؤْتي الزَّكَاةَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ، ذَرْهَا قالَ: كَأنَّهُ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ" (رواه البخاري).

 

2 - أنها سبب من أسباب زيادة الرزق والأجل.

 

3 - أنه سبب لنيل مرضاة الله عز وجل، حيث اجتمعت الشرائع السماوية عليها، ولم يختلف عليها أحد من الفضلاء.

 

4 - صلة الرحم أداة لنشر قيم المحبة والتكافل والتكامل والتراحم بين الأقرباء، فلا تجد في مجتمع المسلمين إلا الحب والوئام، فلا تشاحن، ولا تباغض، ولا صراعات على ميراث وتمزيق في علاقات بين الإخوة بسبب الدنيا وسوءاتها.

 

5 - صلة الرحم سبب لمغفرة الذنوب، فقد ورد في الحديث: "أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا فَهَل لي مِن تَوبةٍ؟ قالَ هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ: هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها) (رواه الترمذي).

 

6 - أنه علامة من علامات الإيمان بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (رواه البخاري).

 

حقوق الرحم

 

وللرحم حقوق، وليست مجرد زيارات تؤدى كلما تذكر المرء أقرباءه وذويه، وإنما هي واجبات متبادلة كل حسب حالته، فالغني ينفق على الفقير من ماله، والقادر يعين الرجل على حاجته، ومن يقع في ضيق أو مظلومية فعلى أقربائه أن يهبُّوا لرفع الظلم عنه وإعانته ورفع مظلمته، وعلى المسلم أن يدعو لأهل رحمه ويخصهم ببشاشة الوجه والرتحاب بهم عند ملاقاتهم ، وأوجب ما يكون في حق الأرحام أن يدعوهم لله عز وجل، وينصحهم تكريما لهم من السقوط في النار، وينهاهم عن المنكر، وأما في أفراحهم وأحزانهم فهو الأخ الذي يساند واليد التي تعين، فيعود المريض ويلبي الدعوة ويفرج الكربات.
 وصلة الرحم ليس من الضرورة أن تكون عملية تبادلية ، بحيث يقول المسلم سوف أصل من يصلني، وأما من قطعني فليس له عندي صلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها" (رواه البخاري)، ومن يصل رحمه مكافأة فإنما فعله للدنيا وليس للآخرة، يبتغي أجرا عاجلا من قريبه، أو ردا لمعروف قدمه له، وأما الواصل امتثالا لأمر الله فإنما يبتغي بعمله وجه الله، فلا ينتظر مقابلا أو مكافأة، هو يبتغي بها الأجر الأعلى، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصَّدقةَ على المسْكينِ صدقةٌ وعلى ذي الرَّحمِ اثنتانِ صدَقةٌ وصِلةٌ" (رواه النسائي).

 

تلك هي أهمية صلة الرحم وحقوقها، وهي من أكثر الأخلاقيات التي ينبغي أن تولى أهمية؛ استعدادا لرمضان، شهر الكرم والجود والعطاء والدعوات والقبول.

 

------------------------------

 

(1) تفسير الطبري.

 

(2) معجم المعاني الجامع.

 

(3) المصدر السابق.

 

(4) خالد الخراز موسوعة الأخلاق، سعيد القحطاني صلة الأرحام.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة