معاملة الأسير.. بين النظم الغربية والنظام الإسلامي
يُعرَّف الأسرى بأنهم المقاتلون الأحياء، ومن في حكمهم، الذين يُظفر بهم أثناء الحرب أو في نهايتها، أو من غير حرب ما دام العداءُ قائمًا. أي أن الأسير هو من وقع في أيدي العدو وأُخذ إلى أرضه وحُبس في سجن فلا حول له ولا قوة. وقد وُجد الأسرُ منذ القدم وجاء الإسلام فأقرّه وعهد إلى رئيس الدولة المسلمة في إمضائه، وهو بين: إما استرقاق الأسير، أو المنّ عليه بإطلاق سراحه بمقابل أو من دون مقابل، ولم يشترط قتلهم.
تصور الإسلام للأسر
وإذ أقرّ الإسلام الأسر كما في قوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا...) [محمد: 4]، (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ...) [التوبة: 5]؛ فلأجل كسر شوكة العدو، وهزيمته وإضعاف قوته، ولافتكاك أسرى المسلمين بهم، كما فعلت المقاومة في «غزة»؛ إذ اعتُبر تخليص الأسرى في الفقه واجبًا على المسلمين، وقيل في ذلك: امرأة في المغرب سُبيت وجب على أهل المشرق تخليصُها ولو أتى ذلك على كل أموال المسلمين.
وللإسلام تصور سامٍ في معاملة الأسرى، رغم أنهم محاربون له، فأمر بالإحسان إليهم، وأقر لهم حقوقًا وواجبات عدة على المسلمين، وذلك قبل أن تظهر المعاهدات والمواثيق الدولية بقرون، والتي لا تزال إلى الآن حبرًا على الورق، حتى قال «جوستاف لوبون: والحق أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين رحماءَ متسامحين مثلَ العرب، وإذا حدث أنِ انتحل بعضُ الشعوبِ النصرانية الإسلامَ، واتخذوا العربيةَ لغةً لهم، فذلك لِما كان يتصف به العربُ من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهدٌ بمثله.
الغرب وإطلاق يد الآسر في أسراه
قديمًا استنّت الممالك الغربية لنفسها قاعدة «إطلاق يد الآسر في أسراه»، بالقتل والتشويه وقطع الأطراف، بمن في ذلك النساء والأطفال، وكان القتل صبرًا أمرًا معتادًا إذا ظفر فريق بآخر. ولم تشذ دول الغرب الحديثة كثيرًا عن هذا الميراث من الحقد وانعدام الأخلاق؛ إذ رغم ظهور معاهدات دولية مع مطلع القرن العشرين تنظّم حقوق الأسرى ضمن إطار القانون الإنساني، مثل اتفاقية لاهاي (1899 و1907) التي حددت القواعد الأساسية لمعاملة الأسرى؛ فإنه ارتكبت جرائم بشعة أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)؛ حيث تم أسر نحو ثمانية ملايين جندي أُعدم الكثيرون منهم أو قُتلوا تحت التعذيب والإهمال والتجويع.
في العام 1929 أُقرّت «اتفاقية جنيف»، التي اعترفت بحق الأسرى في المعاملة الإنسانية، لكن لم تلتزم بها دولة واحدة من دول الغرب، وشهدت الحرب العالمية الثانية فظائع غير مسبوقة في حق الأسرى الذين قُدِّر عددهم بنحو خمسة وثلاثين مليون أسير، قُتل الملايين منهم بطرق وحشية وُصفت بأنها أكبر موجة عنف ضد الأسرى في التاريخ، كما شهدت معسكرات الاعتقال وفاة المئات بسبب إجراء التجارب الطبية القسرية.. وهذه الفظائع والانتهاكات هي ما دفعت إلى ظهور القوانين الإنسانية بعد الحرب، من خلال اتفاقية «جنيف» لعام 1949 التي نصت على حماية أوسع للأسرى وأصبحت المرجع الأساس في القانون الدولي لمعاملة الأسير.
حبر على ورق
لا شك أن «اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب» تعد من أعظم الصكوك العالمية في مجال حقوق الأسير؛ فمن خلال اثنتين وسبعين مادة شملتها الاتفاقية لم تترك أمرًا يتعلق بالأسير والتزام الدول والجيوش تجاهه إلا تناولته، بما يضمن إذا طُبقت حرفيًّا خلو العالم من الأسر كما خلا في مرحلة سابقة من العبودية.. لكنها تظل حبرًا على الورق أمام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأسرى التي ارتكبت بعد صدورها، بل بعد صدور عشرات الاتفاقيات الأخرى الدولية التي تحظر ضروب المعاملة اللاإنسانية للأسير؛ إذ صدر بعدها «البروتوكولان الإضافيان الأول والثاني» (1977)، غير المواثيق والإعلانات الحقوقية العامة، والقوانين الجنائية الدولية، وقرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
الإسلام ومعاملة الأسير
أوجب الإسلام معاملة الأسرى معاملة إنسانية باعتباره إحدى الفئات الضعيفة التي تستحق الرعاية والإيثار، قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان: 8]، وقال النبي ﷺ: «استوصوا بالأُسارى خيرًا» [الطبراني]، «عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني» [البخاري]، [تُراجع مواقفُه ﷺ مع أسارى بدر وهوازن وبني المصطلق، ومع ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، ومع السَّفَّانة بنت حاتم الطائي].
لذا رجّح علماء الأمة الثقات المنَّ عليهم بإطلاق سراحهم، أو مفاداتهم بمال؛ لما جاء في سورة محمد: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا...) [محمد: 4]، منهم الدكتور «يوسف القرضاوي»، وقديمًا: «ابن عباس» و«ابن عمر» و«الحسن البصري» و«سعيد بن جبير»، و«ابن تيمية» الذي قال: (أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسر الرجل منهم في القتال أو غير القتال؛ مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطرق، أو يُؤخذ بحيلة فإنه يفعل به الإمام الأصلح).
وقد أفرزت هذه التوجيهات القرآنية والنبوية نماذج وتطبيقات إسلامية مشرِّفة للإنسانية، أعطت للأسير الحق في الإطعام الجيد؛ (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9]، وفي المأوى الصحي، والعلاج والكسوة، ومن قبلُ عدم تعذيبه أو إكراهه على شيء، وأن يُعامل معاملة طيبة ويُجرَى معه حوار إلى أن يعود إلى قومه؛ ما جعل «أبو عزيز»، شقيق «مصعب بن عمير» يعترف بهذا الفضل بقوله: (كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله ﷺ إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأردها فيردها عَلَيَّ ما يمسها) (البداية والنهاية: 3/ 306]. وورد أن «صلاح الدين الأيوبي» أطلق سراح عدد من جنود الصليبيين بعد أن نفد ما يكفيهم من الطعام؛ لئلا يموتوا جوعًا، وكان رأيه أن يقتلهم محاربين لا أن يقتلهم في الأسر جائعين.
بين رحمة غزة وإجرام الصهاينة
منذ بدء معركة «طوفان الأقصى» وجّهت كتائب «القسّام» مقاتليها إلى حسن معاملة الأسرى الصهاينة وفق تعاليم الإسلام. ولم يكن هذا التوجيه نظريًّا نفاقًا للعالم، بل شاهدت الدنيا انعكاس ذلك على حالة الأسرى الجسدية والنفسية عند إطلاق سراحهم، ومن خلال تقديم الهدايا التذكارية لهم، ومشاهد الوداع الودية بينهم وبين أفراد المقاومة، الذين كانوا يربّتون على الأطفال ويترفّقون بالمسنين، ورأوا أسيرة برفقة كلبها، وأخرى تؤدي ما يشبه التحية العسكرية لمقاتلي الكتائب، وغيرها من المشاهد التي أجبرت وسائل إعلام صهيونية على الاعتراف بأن «حماس» أحسنت معاملة أسراهم؛ (ولم يتعرضوا لأي نوع من العنف والإهانة، بل زوّدتهم عناصر الحركة بالغذاء والمسكنات والأدوية الاعتيادية قدر المستطاع، في ظل ظروف أمنية خطيرة وقاسية تحت الأرض وداخل الأنفاق) –على حد قولهم.
والبون شاسع بين تلك الرحمة في «غزة» والعنف والقسوة في الجانب الآخر، الذي يمثل الغرب في ممارساته غير الأخلاقية مع أسرى عدوه، ويمثل الصهيونية في إجرامها مع الأغيار. لقد كشفت الشهادات المروِّعة للأسرى الفلسطينيين المحررين عن تعرضهم للضرب والتنكيل وهم مقيدون حتى الساعة الأخيرة من إطلاق سراحهم. وأكدت منظمات حقوقية دولية مرارًا أن حكومة الاحتلال دأبت على انتهاك حقوق هؤلاء الأسرى بشكل وحشي وممنهج، بالتعذيب الجسدي والنفسي، والإهمال الطبي، والتعطيش، والحرمان من الأدوية، بما يشكل جرائم حرب، مخالِفَةً بذلك كل القوانين والأعراف الدولية.. ولا حياة لمن تنادي.