3 فوائد اجتماعية للصيام

يظن بعض الناس أن فوائد الصيام مقتصرة على تنمية الجوانب الإيمانية في حياة المسلم؛ كمغفرة الذنوب، ورفعة الدرجات، ودخول الجنة، ويزيد البعض في فوائد الصيام عدداً من الجوانب الأخلاقية؛ كالصبر وقول الحق وكظم الغيظ.
والحقيقة أن هذه الفوائد عظيمة القدر، جليلة النفع، لكن فوائد الصيام لا تتوقف عندها، بل يضاف إليها جانب آخر، وهو الجانب الاجتماعي، وتتبين الفوائد الاجتماعية للصيام فيما يأتي:
أولاً: الشعور بالمحتاجين:
الصائم الذي ذاق ألم الجوع والعطش يشعر بإخوانه المسلمين الذين يتجرعون مرارة الجوع والعطش على مرأى ومسمع من الجميع، فيسارع إلى دَفْعِه.
وفي هذا يقول الإمام ابن الهمام: لقد شرع الله سبحانه وتعالى الصيام لفوائد متعددة، منها: كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَتُسَارِعُ إلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَيَنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ.
وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا حَكَى بِشْرٌ الْحَافِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعُدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ يُنْزَعُ الثَّوْبُ؟ وَمَعْنَاهُ، فَقَالَ: يَا أَخِي الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ(1).
وسئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع، فلا ينسى الجائع، وهذا من بعض حِكَم الصوم وفوائده(2).
فإذا شعر المسلم بإخوانه المحتاجين، فإنه لا ينساهم، بل يعطف عليهم، ويحرص على تقديم العطاء لهم، من خلال الصدقات والهبات، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه البخاري، ومسلم، عن عبدالله بن عباس، قال: «كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
ثانياً: ضبط السلوك الاجتماعي:
الصيام يسهم في ضبط النفس والسيطرة عليها، من خلال التمرين على قول الحق والسكوت عن الزور والباطل، وإلا فإن أجر الصيام يكون ناقصاً، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ»، بل إنه يسعى إلى ضبط نفسه في انفعالاتها، ويتحكم في ردود أفعالها، فقد وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، فإذا فعل المسلم ذلك؛ فإن هذا يعزز من حسن المعاشرة بين الناس، ويدعو إلى سلامة المجتمع من الصراع والنزاع، وسيادة المحبة والالتقاء والاجتماع.
ثالثاً: توثيق الروابط الاجتماعية:
الصيام يسهم في شعور المسلمين بأنهم أمة واحدة، حيث إنهم يصومون في شهر واحد، ويمتنعون فيه عن الطعام والشراب والجماع في وقت واحد؛ وهو وقت طلوع الفجر، ويفطرون في وقت واحد؛ وهو وقت المغرب، ويتسابقون إلى قراءة كتاب واحد؛ وهو القرآن الكريم، فهذه كلها مظاهر للالتقاء والاجتماع بين المسلمين.
وقد عزّز الإسلام هذه الروابط بين المسلمين، من خلال الدعوة إلى الالتقاء على موائد الإفطار، فقد رغّب الإسلام في تفطير الصائمين، حيث روى الترمذي في سننه بسند صحيح، عن زيد بن خالد الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقصُ من أجر الصائمِ شيئًا»، وليس هذا الثواب لمن فطّر مسكيناً أو فقيراً فقط، بل إنه مضمون لمن فطّر الصائم مطلقاً، حيث إن الحديث لم يحدد إفطار الصائم الفقير فقط.
ومما يؤيد هذا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمعوا هذا الحديث تسابقوا إلى تنفيذه، وحرصوا على تطبيقه، فقد روى ابن ماجه أن سعداً بن معاذ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يفطر معه، فلبّى النبي دعوته صلى الله عليه وسلم، وبعد الإفطار قال صلى الله عليه وسلم: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة»، وفي هذا دليل على أن إفطار الصائمين لا يقصد به إطعام المساكين فقط، بل يقصد به إطعام الأهل والأصحاب وغيرهم.
وكان رجال من بني عدي –قوم سيدنا عمر بن الخطاب- لا يفطرون وحدهم أبداً في رمضان، فإذا وجدوا من يفطر معهم أخذوه إلى بيتهم، وإلا أخذوا طعامهم إلى المسجد فأفطروا وأفطر معهم الناس(3).
وكان حماد بن أبي سليمان يفطر في رمضان خمسمائة إنسان(4).
وعن أبي جعفر محمد بن عليّ قال: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاما يشتهونه أحب إليّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل(5)، ففي الالتقاء على موائد الإفطار ما يزيد من الروابط الاجتماعية بين المسلمين.
كما عزز الإسلام مظاهر التوثيق والارتباط الاجتماعي بين المسلمين من خلال رمضان في الاجتماع لأداء صلاة التراويح وقيام الليل، حيث يلتقي المسلمون بجميع أطيافهم واتجاهاتهم وطبقاتهم في المساجد لأداء الصلاة، دون تفرقة أو تمييز بينهم.
بل إن الإسلام قد فرض على المسلمين في ختام شهر رمضان الكريم أن يتكافلوا ويتعاونوا على مواجهة صعوبات الحياة، وذلك من خلال زكاة الفطر، التي تجب على الكبير والصغير والرجل والمرأة والحر والعبد، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن عبدالله بن عمر، قال: «فَرَضَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ علَى العَبْدِ والحُرِّ، والذَّكَرِ والأُنْثَى، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأَمَرَ بهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ».
وقد رغّب الإسلام في أدائها، حين أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تسهم في تطهير الصيام من اللغو والرفث، فقد روى أبو داود، وابن ماجه عن عبد الله بن عباس، قال: فرضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ زَكاةَ الفطرِ طُهرةً للصَّائمِ منَ اللَّغوِ والرَّفثِ وطعمةً للمساكينِ من أدَّاها قبلَ الصَّلاةِ فَهيَ زَكاةٌ مقبولةٌ ومن أدَّاها بعدَ الصَّلاةِ فَهيَ صدقةٌ منَ الصَّدقاتِ.
فإذا أدى المسلمون زكاة الفطر فإنها تسهم في تخفيف الأعباء على الفقراء والمحتاجين، وتجعلهم يشعرون بفرحة العيد مع الناس أجمعين، ولهذا كان من أهم مقاصد إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد: إغناء الفقراء عن المذلة والمسألة في يوم العيد، وقد أجاز بعض الفقهاء تقديم إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، من أجل أن يشتري الفقير ما يريد من طعامه وشرابه وكسائه بما يحقق الفرحة بالعيد لدى كل الناس، بدلاً من أن يفرح الغني دون الفقير، فتمتد عين الفقير بحسد الغني، أو تمتد يد الفقير بسرقة الغني، فيفقد كل منهما الأمن والسعادة، ولهذا كانت الزكاة وسيلة إلى توثيق الروابط الاجتماعية بينهم، فالغني يفرح حين يجد من يأخذ منه صدقته، والفقير يفرح حين يجد من يعطيه المال الذي يحقق به غايته ويقضي به حاجته.
___________________
(1) فتح القدير: كمال الدين ابن الهمام، (2/ 301).
(2) لطائف المعارف: لابن رجب الحنبلي، ص 168.
(3) مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي، ص 40.
(4) سير أعلام النبلاء: للذهبي، (5/ 530).
(5) مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي، ص 41.