5 مقاصد لإخفاء ليلة القدر


أخفى الله سبحانه وتعالى عن عباده العديد من الأشياء، رغم تطلعهم إلى معرفتها، فقد أخفى اسمه الأعظم في أسمائه الحسنى، الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب؛ حتى يدعو الناس ربهم بأسمائه الحسنى كلها، كما أخفى سبحانه وتعالى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، حتى يجتهد الناس في الدعاء طوال اليوم، كما أخفى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وذلك لحكم جليلة ومقاصد سامية، منها:

1- مداومة العبادة طلبا لها:

أوضح الحق سبحانه وتعالى عِظَم ليلة القدر، فقال: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر: 3-4). وأكد النبي صلى الله عليه وسلم أن اغتنام ليلة القدر يسهم في مغفرة الذنوب، ففي صحيح البخاري عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «‌مَنْ ‌قَامَ ‌لَيْلَةَ ‌الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وليس لدى المؤمن أعظم من أن ينال المغفرة، لذا فإنه يسعى إليها ويحرص عليها من خلال الاجتهاد في هذه الليلة المباركة، فإذا علم وقتها؛ فإنه يجتهد فيه فقط، أما إذا خفي هذا الوقت؛ فإنه يجتهد في العشر الأواخر كلها، وهي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماس ليلة القدر فيها، ففي صحيح البخاري عَنِ ‌ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "‌الْتَمِسُوهَا ‌فِي ‌الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى".

2- الاجتهاد في الدعاء:

ليلة القدر مليئة بالرحمة والمغفرة والبركة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء فيها، ويأمر بذلك، ففي مسند أحمد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: «قُولِي: ‌اللهُمَّ ‌إِنَّكَ ‌عَفُوٌّ ‌تُحِبُّ ‌الْعَفْوَ، ‌فَاعْفُ ‌عَنِّي». ففي ذلك دعوة إلى الاجتهاد في طلب العفو من الله سبحانه وتعالى، وهو خير ما يطلبه الإنسان، فمن عفا الله عنه؛ أدخله جنته. ولأهمية العفو وطلبه من الله سبحانه وتعالى أخفى الله عز وجل ليلة القدر حتى يكون الدعاء كثيرا ومتواصلا في الأيام كلها.

3- تجنب الخصام:

روى البخاري في صحيحه عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، ‌فَتَلَاحَى ‌رَجُلَانِ ‌مِنَ ‌الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ». والمقصود بالتلاحي هنا هو التشاجر ورفع الصوت وما يترتب عليهما من الخصام والقطيعة بين الناس. وقد دلّ الحديث على أن المخاصمة كانت سببًا لنسيان وقت ليلة القدر، ففي الخصام والقطيعة منع الخير عن الناس، لذا فإن إخفاء ليلة القدر يسهم في تجنب الخصام، حتى يدرك المسلم أجرها وثوابها.

4- الانتهاء عن المعصية:

إن وراء إخفاء هذه الليلة رحمات عظيمة، حيث إن ليلة القدر فيها ثواب عظيم، فإذا تركه المسلم ووقع في الذنب وهو يعلم أنّه في ليلة عظيمة؛ فإن ذلك يكون سببا لمضاعفة الإثم والعقاب. قال الإمام الرازي في تفسيره: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَوْ عَيَّنْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَنَا عَالِمٌ بِتَجَاسُرِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَرُبَّمَا دَعَتْكَ الشَّهْوَةُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَوَقَعْتَ فِي الذَّنْبِ، فَكَانَتْ مَعْصِيَتُكَ مَعَ عِلْمِكَ أَشَدَّ مِنْ مَعْصِيَتِكَ لَا مَعَ عِلْمِكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَخْفَيْتُهَا عَلَيْكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ أَطَعْتَ فِيهَا ‌اكْتَسَبْتَ ‌ثواب ‌ألف ‌شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عِقَابَ أَلْفِ شَهْرٍ، وَدَفْعُ الْعِقَابِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الثَّوَابِ.

5- زيادة الخير والتنافس فيه:

إذا كانت ليلة القدر مليئة بالعطاءات الربانية؛ فإن الناس يتنافسون في تحصيل هذه العطاءات، من خلال تعدد الأعمال الصالحة والتنافس في الزيادة عن الآخرين، فهذا يقوم الليل بركعتين، وآخر يقوم ثلث الليل وثالث يقوم نصفه ورابع يقومه كله، ومن الناس من يحرص على تحصيل الخير الوارد في ليلة القدر من خلال العفو عن الناس والإصلاح بين المتخاصمين، ومنهم من يبحث عن ثوابها في التصدق على المحتاجين وإفطار الصائمين.. إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون. فإذا كانت ليلة القدر واضحة ومحددة فإن وقت هذه الطاعات يكون محدودا وقليلا، أما إخفاؤها فإنه يوسع دائرة العمل، ويدعم التنوع والتنافس فيه، مما يزيد من حرص المسلمين على العبادة والمنافسة في الطاعات، حتى يتعمّق الأثر الروحي لشهر رمضان في حياة الناس.

 

 

 

 

 


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة