إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (17)

عمق الاستفادة من صيام رمضان

مَرَّ الحسن البصري بقوم يضحكون في شهر رمضان، فقال: يا قوم، إنّ الله جعل رمضان ‌مِضماراً ‌لخلقه يتسابقون فيه إلى بطاعته إلى مرضاته؛ فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا؛ فالعجب من الضاحك اللاهي في اليوم الذي فاز فيه المُحسِنون، وخاب فيه المُبْطلون المتخلفون(1).

مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الاستفادة من صيام رمضان:

1- إحسان الصيام:

حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على إحسان الصيام، فلم يكن الصيام في مفهومهم يعني الامتناع عن الطعام والشراب فقط، بل كان صياماً في الظاهر والباطن، أما ظاهره ففي ترك الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأما باطنه ففي الصيام عن قول الزور والكذب والغيبة والنميمة وغيرها

المسلمون حفظوا هيبة رمضان فلم يسمحوا بانتهاك حرمة الصيام

أورد ابن حزم أن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قال: لَيْسَ ‌الصِّيَامُ ‌مِنْ ‌الشَّرَابِ ‌وَالطَّعَامِ وَحْدَهُ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ الْكَذِبِ، وَالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ، وقَالَ جَابِرٌ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: إذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وَبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ عَنْ الْكَذِبِ وَالْمَأْثَمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ، وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صَوْمِكَ سَوَاءً(2).

2- قراءة القرآن:

روى البيهقي أن عثمان كان يختم القرآن في رمضان كل ليلة مرة، وابن مسعود يختمه كل ثلاث ليال، وتميم الداري يختمه كل سبع ليال، وأبي بن كعب يختمه كل ثمان ليال، وكان الإمام مالك إذا دخل عليه رمضان يُقبل على تلاوة القرآن من المصحف، ويترك كل شيء حتى مدارسة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن(3).

3- صلاة القيام:

روى الإمام مالك عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبَيَّ بن كعب، وتميماً الداري، أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في رمضان، فكان القارئ يقرأ بِالْمِئِينَ، حتى كنا نعتمد على العصيِّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر، وعَنْ عَبْدِ للَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ من القيام، ‌فَنَسْتَعْجِلُ ‌الْخَدَمَ ‌بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ.

4- إطعام الطعام:

كان ابن عمر يصوم ولا يفطر ‌إلا ‌مع ‌المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يأكل تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً، وكان رجال من بني عدي لا يفطرون وحدهم أبداً في رمضان، فإذا وجدوا من يفطر معهم أخذوه إلى بيوتهم، وإلا أخذوا طعامهم إلى المسجد فأفطروا وأفطر معهم الناس.

.. وحرصوا على الاستفادة من صيام رمضان رغبة في تزكية النفوس وتطهيرها

وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إليّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل(4)، وقال الذهبي: كان حماد بن أبي سليمان يفطر في رمضان خمسمائة إنسان(5)، وأوردت كتب التاريخ أن أحد الخلفاء العباسيين رتب في رمضان ‌عشرين ‌داراً ‌للضيافة ‌يفطر ‌فيها ‌الصائمون ‌من ‌الفقراء، يطبخ في كل يوم فيها طعام كثير، ويحمل إليها أيضاً من الخبز النقي والحلواء شيء كثير(6).

5- تمرين الأولاد على الصيام والقيام:

روى البخاري، ومسلم، عن الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ قالت: كُنَّا نُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَنَصْنَعُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ ‌الْعِهْنِ، فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ، أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ، حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ، وروى البيهقي عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا ‌نَأْخُذُ ‌الصِّبْيَانَ؛ لِيَقُومُوا بِنَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

6- المحافظة على هيبة رمضان:

حفظ المسلمون في عصر الحضارة هيبة رمضان، فلم يسمحوا بانتهاك حرمة الصيام، فقد ثبت عن عليّ بن أبي طالب أنه أُتِي برجل يسمى قيس بن عمرو، شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين جلدة، ثم ضربه من الغد عشرين، وقال: ضربناك العشرين لجرأتك على الله، وإفطارِك في رمضان(7).

دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الاستفادة من صيام رمضان:

1- الحرص على الفوز بالثواب:

انطلق المسلمون في عصر الحضارة الإسلامية نحو الثواب الذي أعده الله للصائمين، فأحسنوا صيامهم وهم يرقبون هذا الجزاء العظيم، فقد قال يعقوب بن يوسف: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت ‌شفاهكم ‌عن ‌الأشربة وغارت أعينكم وجفت بطونكم كونوا اليوم في نعيمكم وتعاطوا الكأس فيما بينكم»، وقال الحسن: «تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ من جهد العطش فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي رغبة فيما عندي، اشهدوا أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك»(8).

ابن القيم: الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها الشهوات

2- تزكية النفوس وتطهيرها:

حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الاستفادة من صيام رمضان رغبة في تزكية النفوس وتطهيرها، ففي الصيام زكاة النفس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة(9)، فهو يسمو بالنفس ويرقى بالروح ويهذبها، ثم هو يطهرها من التعلق بالرفث والجهل، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ»، وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: «الْغِيبَةُ تَخْرِقُ الصَّوْمَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يُرَقِّعُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَجِيءَ غَدًا بِصَوْمِهِ مُرَقَّعًا فَلْيَفْعَلْ».

3- بناء الإرادة والعزيمة:

حين رخص القرآن الكريم لمن لا يطيق الصيام في الفطر؛ أكد أن الصيام خير وأفضل، حيث قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 184)، ويأتي هذا الاستحباب في مقام الوسيلة التربوية المعينة على تحمل المشاق وتقوية العزيمة وبناء الإرادة، ففي الصيام تربية على تحمل الصعوبات والتغلب على الشهوات.

4- حفظ البدن والجوارح:

قال ابن القيم: للصيام تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى(10).





_________________________

(1) العقد الفريد: ابن عبد ربه الأندلسي (3/ 150).

(2) المحلى: ابن حزم (4/ 306).

(3) لطائف المعارف، ص 360.

(4) رسائل ابن رجب الحنبلي، ص 41.

(5) سير أعلام النبلاء (5/ 530).

(6) البداية والنهاية: ابن كثير (16/ 755).

(7) المحلى: ابن حزم (6/ 184).

(8) لطائف المعارف، ص 158.

(9) تفسير ابن كثير (1/ 497).

(10) زاد المعاد (2/ 28).


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة