10 قيم حضارية في الصيام

يظن بعض الناس
أن الحضارة شيء مادي لا علاقة له بالروح، والحقيقة أن النهوض المادي فقط يمكن أن
يطلق عليه مفهوم التقدم أو التكسب، أما الحضارة فلا بد لها من شق معنوي بالإضافة
إلى الشق المادي، حيث لا يمكن لحضارة أن تستقيم أو تستمر وهي غافلة عن الروح، ولا
يشبع الروح إلا الإيمان بالله تعالى وحسن الصلة به، ويتأتى هذا بالتعبد لله.
لذا فقد أجمع
الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، أن الإنسان منذ أقدم العصور يتدين
ويتعبد ويؤمن بإله، حتى قال أحد كبار المؤرخين: لقد وجدت في التاريخ مدن بلا قصور
ولا مصانع ولا حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد(1)،
إن الناظر إلى
فريضة الصيام يجد أنها تغرس في نفس مؤديها عدداً من القيم التي تبني الحضارة
الإنسانية النافعة، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- حسن
الصلة بالله:
قال ابن القيم:
في القلب شعَثٌ لا يلمُّه إلّا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يُزيلها إلّا
الأُنس به في خَلوته، وفيه حزنٌ لا يُذهبِه إلّا السُّرور بمعرفته وصدق
معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكِّنه إلّا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران
حسراتٍ لا يطفئها إلّا الرِّضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصّبر على ذلك إلى
وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقةٌ لا
يسدُّها إلّا محبّته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي
الدُّنيا بما فيها لم تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا(2)،
ويسهم الصيام في
البناء الروحي من خلال حسن مراقبة الله تعالى، وإحياء الضمير الإنساني، والحرص على
التقرب من الله تعالى.
2- بناء
الذات والإرادة الإنسانية:
لا يستطيع
الإنسان أن يؤدي مهمته في الحياة، من العبادة والعمران، ويكون ذا أثر وتأثير
حضاري؛ إلا إذا امتلك ذاتًا قوية فاعلة، تتمتع بالإرادة النافذة، والقدرة على تحمل
المشاق، وامتلاك النفس والتحكم في شهواتها، بحيث لا ينقاد إليها في غير ما يحل، بل
حتى لا ينقاد إليها بإسرافٍ فيما يحل.
وهذه المعاني
موجودة في عبادة الصيام؛ فهي تقوي عزيمة الإنسان، وتضبط له إرادته وتقويها، وتهذب
غرائزه وحاجاته، وتجعله يمتنع ليس عن المحرمات فحسب، بل عن بعض الحلال أيضًا.
والإنسان حين
يصوم عليه أن يستحضر هذا المعنى من بناء الذات؛ بما يستلزمه من تقوية الإرادة،
وتهذيب الشهوات والطباع، وضبط الميل والغرائز، حتى يستمر معه هذا المعنى لما بعد
رمضان، ويكون مؤثرًا في حياته بجوانبها المتعددة.
3- بناء
المجتمع:
لا تقوم الحضارة
على أساس إشباع الحاجات الفردية دون الجماعية، بل لا بد من العناية بالمجتمع، فهو
الوعاء الذي يضم الأفراد والإمكانات المادية اللازمة للبناء الحضاري.
ويظهر أثر
الصيام في بناء المجتمع من خلال تخليته من كل مظاهر السوء والأذى والتعدي على
الآخرين، فلا رفث ولا فسوق ولا سباب، بل صبر على الأذى، ففي الصحيحين عن أبي هريرة،
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ،
فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ،
فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ».
كما يظهر أثر
الصيام في بناء المجتمع من خلال تحليته بالخير، بإشاعة قيم التراحم وبذل الخير
والشعور بالفقراء والمحتاجين وكفالتهم، ففيه حث على إطعام الطعام، وصدقة الفطر
والصدقات العامة في كل أبواب الخير، فإذا كُفَّ الأذى بين أبناء المجتمع، وشاع
فيهم العطاء؛ كنا أمام مجتمع قوي البنيان، متراصِّ الصفوف، متآلف القلوب.
4- النظام
والانضباط:
فالصيام طريق
النظام، سواء كان هذا النظام في تحديد الهدف والغاية، أم في جانب العبادات، أم
العادات، أم الأوقات، ففي رمضان تتجلى مظاهر النظام في كل شيء، وهذا النظام يؤسس
للبناء الحضاري في أسمى صوره، كما ينضبط الصائم في مواعيد الصيام من طلوع الفجر
إلى غروب الشمس، بالإضافة إلى انضباطه في صلواته وأذكاره وقراءته للقرآن الكريم،
بل يمتد الانضباط إلى عاطفته وحركته؛ ما يشكل صورة من صور الانضباط الحضاري
المتكامل.
5- التميّز:
لا تميز عند
الله إلا للمتقين، فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، والمتقون
متميزون في علاقتهم بربهم وأنفسهم والناس من حولهم، ويسهم الصيام في تحقيق هذا
التميز، حيث إن غايته تحقيق التقوى، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
(البقرة: 183)، فإذا تميز الصائم بالتقوى فإنها تؤسس لبناء حضاري متميز في
كل الجوانب الحياتية.
6- الصبر
والتحمل:
يسهم يوم الصائم
وليلته في تعويده على الصبر والتحمل في كل شيء، ففي الصيام يصبر على الجوع والعطش،
وفي الشارع يصبر على الأذى، وفي الليل يتحمل قلة النوم حتى يستيقظ لتناول السحور،
ويدرك البركة الواردة فيه، إلى غير ذلك من مظاهر الصبر والتحمل، التي تعين المسلم
على مواجهة كل تحديات الحياة.
7- البذل
والعطاء:
ينفق الصائم من
ماله ويجود بالعطاء، كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري
ومسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ
يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ،
فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ
يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
8- جهاد
النفس:
تحب النفس
الإنسانية الشهوات وترغب في فعل الملذات، لكن الصوم يمنعها من ذلك فترات طويلة،
حتى تلين لصاحبها وتخضع له، ويسهم الصيام في هذا من خلال مقاومة الصائم لشهواته
ورغباته، وتدريبه على التحكم في نفسه، وضبط لسانه وكظم غيظه، ووترك الغيبة
والنميمة والسخرية وغيرها من أشكال الانتصار على الآخرين، ويضاف إلى ذلك ما يقوم
به الصيام من الاستمرار في العمل والجد والاجتهاد في الصلاة، والقيام، وقراءة
القرآن، والذكر، رغم قلة الطعام والشراب، وهذا جهاد كبير للنفس.
9- الشعور
بالمسؤولية:
ليس الصيام مجرد
عادة يؤديها المسلم بشكل آلي، بل هو نظام يلتزم فيه بالعديد من الواجبات، فالصائم
يشعر بالمسؤولية تجاه ربه ونفسه ومجتمعه، وهذه المسؤوليات تسهم في تربية الإنسان
على التحمل والحرص على القيام بالواجب تجاهها؛ ما يعين على التأسيس للنهوض
الحضاري.
10- التوازن
بين الروح والجسد:
تتجه بعض
النظريات الوضعية في البناء الحضاري نحو إشباع المادة وحدها، بينما يتجه آخرون نحو
إشباع الروح فقط، ويسرف كل منهما في اتجاهه متغافلاً عن الحاجات الأخرى للنفس
الإنسانية، وهنا تأتي الحضارة الإسلامية لتعطي كل جانب حقه بالعدل والقسط، فتأتي
عبادة الصيام، لتذكِّر المسلم بأن له روحًا لها متطلبات، بمثل ما إن له جسدًا له
حقوق، فيغذي الصائم روحه بالطاعات المتنوعة بعد أن غذى جسده ببعض الطعام والشراب
في أوقات محددة، حتى يجمع بين الاحتياجات الجسدية المادية والغذاء الروحي الذي
ينهض بالإنسان ويرتقي به في معارج الكمال، فإذا انتهى الصائم إلى هذه القيم
الحضارية وتفاعل معها وتعايش بها فإنها تسهم في بناء الحضارة النافعة.
_________________________
(1) الإيمان
والحياة: د. يوسف القرضاوي، ص 45.
(2) مدارج
السالكين (4/ 17).