في هذا الجزء من الحوار يعرض د. حسين حامد حسان شهادته على “أزهره، وأزهر جيله” كما أسماه، وأهم ملامحه وميزاته، وكيف كان الأزهر الذي عرفوه قادراً على إعداد مجتهدين قادرين على النقد والمراجعة، وليس “حفّاظًا” كما يدعي كثيرون.
حسان أكد أن هذا الإعداد يجعل الطالب “قادراً على تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع الجديدة” وهو ما يفتقده كثير من المتصدين للعلم الشرعي وللفتوى بحسبانها آلية إحياء الأحكام الشرعية في الواقع المعيش.
وحين سألنا الأزهري القديم عن رأيه في الأزهر حالياً، وهل ما زال طلابه يتمتعون بهذه القدرة قال: “في تقديري أن هذه الطريقة اختفت..”، معللاً ذلك باختفاء كتب التراث من ذاكرة الطالب الأزهري، وعدم قدرته على التعامل معها؛ بسبب دراسته لـ”مذكرات بلغة عامية..”.
هذا الجزء من الحوار إذن محاولة لرؤية أزهر آخر غير الذي نراه حالياً.. أزهر قادر على صناعة مجتهد، لا مجرد نسخ مشوهة لا تستطيع مطالعة كتب التراث.. مجرد المطالعة!
ثم الحوار بمجمله بعد ذلك تطوافة في عمر الأستاذ الدكتور حسين حامد حسان داخل الحلقة الأزهرية طالباً وأستاذاً، وفقيهاً مجتهداً أسهم بفقهه واجتهاده في جوانب كثيرة.
فإلى تفاصيل الحوار..
نرجو أن تصف لنا طبيعة المعهد الديني في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وطبيعة الأزهر وعلاقة الطلاب بالمدرسين كيف كانت، ومدى قدرة الأزهر في هذا الوقت على تربية طلابه على الاجتهاد؟
– أولاً هذا النوع من التعليم هو تعليم لا يعتمد على التلقين، إنما كان يعتمد على الفهم، ولذلك لم يكن القدر الذي كنا ندرسه كبيرًا، ولكنه كان به شيء من التحليل والتدليل، والتعليم، والموازنة، والترجيح، وهو لتكوين الملكة، وهذا هو الفقه، لأن الفقه ليس حفظا للنصوص، فالآن يمكنك حفظ ملايين النصوص والكتب في أقراص.
والكتب موجودة، الأزهر لم يكن يخرج نسخا من الكتب، ولكنه كان يخرج فقيها، بمعنى أنه يستطيع البحث في كتب الفقه، كتب الأصول، وكتب التراث، وفهم هذه اللغة، ويستطيع التدقيق فيها كذلك، بحيث يصبح قادراً على ممارسة العملية الاجتهادية.
بمعنى أن طالب الأزهر وقتها كان قادرا على تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع الجديدة، وهذا يؤكد أن التعليم كان يعتمد على الفهم، ولذلك كانت تذكر الأدلة، فقد استدل أصحاب الرأي الأول بكذا وكذا، ثم يعرض باقي الآراء، ثم يقول استدل أصحاب الرأي الثاني على مذهبهم، في أي مسألة بكذا وكذا وكذا.
ثم ندرس نقد أدلة الرأي الأول، فنقول: أجيب على أدلة الرأي الأول بكذا وكذا، ثم تتاح الفرصة لأصحاب هذا الرأي أن يعلقوا، وهذا كله في الحقيقة تدريب على تكوين فقيه مبتدأ، مجتهد مبتدأ.
هل ترى هذه الملكة التي كان الأزهر يحرص عليها قديمًا ما زالت موجودة؟
– في تقديري أن هذه الطريقة اختفت؛ لأننا كنا نهتم أساسًا بكتب التراث، كتب التراث هي ثروتنا، فإذا لم يوجد من الأجيال المتعاقبة من يستطيع الغوص في هذه الكتب وفهمها، ويعتمد في دراسته كما هو الآن على مذكرات بلغة العامة، فتراثنا من يفهمه بعد ذلك؟! من يستفيد منه؟!
ثروتنا هي تراثنا، ولذا لا بد أن نعتمد عليها؛ لأنها أصولنا وثوابتنا، ومعرفتنا من الأمور الأساسية، ثم بعد ذلك يكون الاجتهاد، والتجديد، ومسايرة التطور، ومتابعة التقدم في ظل الثوابت، وفي ظل هذه الأصول الكلية القطعية في هذه الشريعة.
ولذا كانوا في الأزهر قديما يحرصون على أن نقرأ كتبا مهمة جدًّا، مثل كتب الشاطبي، وكتب القرافي، والكتب التي كتبت في المصلحة، وفي السياسة الشرعية، كتب الأموال وغيرها، وهذا يعني أننا كنا نهتم بالفقه بمعناه الأصلي وهو الفهم.
وأنا أؤكد أنه لا بد من الملكة، ومن الفقه، حتى نستطيع التعامل مع مستجداتنا دون التنكر لتراثنا، ولذا فقد علمونا في الأزهر قديما كيف نبني على النصوص، فهناك كتب كتبت في تخريج الفروع على الأصول، بناء الفروع على الأصول، الفروق مثلاً، مقاصد الشريعة.
كل هذه العلوم كانت تهيئ وتعد طالب الأزهر أن يكون مجتهدًا، وإلا فمن يجتهد، إذا لم تخرج هذه الجامعة المجتهدين؟ من يجتهد للعالم، وللأمة الإسلامية، والنوازل والوقائع تترى، من يستطيع أن يثور النص ويخرج منه الحكم؛ لأن في القرآن حكما لكل شيء كما يقول الشافعي رضي الله عنه في أول صفحة في مقدمة كتابه الشهير “الرسالة في علم الأصول”: “أما بعد فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله دليل على سبيل الهدى فيها”، ويقول: “كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، وعلى سبيل الحق فيه دلالة موجودة”. ومعنى هذا أنه يؤكد أن الفقيه يصل إلى هذا الحكم بالاجتهاد.
هذا يدفعني لسؤال عن الطريقة التي كان الأزهر قديما يتعامل بها مع كتب التراث ويدرب أبناءه عليها؟
– في الحقيقة هذه الطريقة يحاول العالم كله الآن أن يتبعها، حتى مناهج التعليم الغربية، بدأت تنهجها، أنا عندما درست في أمريكا -وهي الرحلة التالية بعد ذلك- وجدت أنهم يأتون في فرع من فروع القانون مثلاً، وينشئون معهدًا خاصًا بهذا..
وعندما تكون الشروح الكثيرة يقومون بعمل مختصر لها، ثم هذا المختصر تقوم جهة أخرى، أو أشخاص آخرون بشرحه في مجلدات، ثم يقوم فريق ثالث بالتعليق عليه، يعني هي طريقة المتن، والشرح، والحشي، فيأتي صاحب الشرح، ويكون له شرح على عبارات صاحب المتن، ويأتي صاحب الحاشية ويشرح ويعلق ويضيف على شرح الشارح، وهذه الطريقة كانت طبيعية في تاريخ التعليم الإسلامي، ونحن لم نتعلم إلا بهذه الطريقة.
دعني هنا أسألك فضيلة الدكتور: أليس غريبا أن دكتور حسين حامد حسان رجل الاقتصاد ورجل فقه المعاملات، يشيد بكتب التراث بهذه الطريقة مع أن فقه المعاملات انقلب رأسًا على عقب على هذا التراث في كثير من مناحيه؟!!
– أبداً.. ليس في الأمر غرابة.. فهذه الكتب هي التي تعلمنا منها وتخرجنا عليها، وكونت المنهج من غير شك، وهذا المنهج العلمي يؤخذ عن العلماء، ولا يؤخذ فقط عن الكتب، والعلم يؤخذ بالمناظرة، وكتب الفقه كلها حتى الأئمة أصحاب المذاهب يذكرون في كتبهم هذه المقارنات بين آرائهم وبين آراء غيرهم بكل احترام وتقدير، يعني الشافعي يقول عندما يعرض مذهب أبي حنيفة يقول عنه: قال من نثق في علمه من أهل العراق الأمر كذا وكذا وكذا، وهو ما لا نوافقه عليه..
هذا أبسط ما يقول في نقد الرأي الآخر، يبدأ الأول بإعلان الثقة في علم المخالف، ثم كل ما يقوله إذا كان له رأي مخالف، يقول: “وهذا ما لا نوافقه عليه”… وما سمعنا قط أن عالمًا مجتهدًا ادعى أن قوله هو الحق، ولا حق في غيره، وأن حكمه هو العدل ولا عدل فيما سواه، دائما نقول: رأينا نعتقد أو نظن ظنًا راجحًا أنه حق، أنه صواب، ورأي غيرنا نعتقد أو نظن ظنًا راجحًا أنه خطأ، لكن رأينا يحتمل الخطأ أيضًا، ورأي غيرنا يحتمل الصواب.
وهذا يعني أن التراث الفقهي أو تراث العلوم والمعارف الإسلامية عرف الاختلاف حتى في العصر الواحد، ولذلك وجدت المذاهب الأربعة أو الخمسة عند بعضهم، ومعنى هذا أن الفقه الإسلامي عني بمقاصد الشريعة، وتفهم أن الله عز وجل ما أنزل نصًا ولا شرع حكمًا إلا لتحقيق مصلحة من مصالح الناس.
وأن على المجتهد ألا يفسر النصوص تفسيرًا حرفيًا، إنما عليه أن يفسرها حسب المقاصد والمصالح التي قصدها الشارع من النصوص، ويحدد نطاق تطبيقها، ومجال إعمالها في ضوء المصلحة التي جاءت هذه النصوص لإقامتها، فكل أحكام الشريعة الاجتهادية جاءت على هذا الأساس.
إذن أنت ترى أن المصلحة هي المعيار وأن قدسية التراث الفقهي تنهار أمام مصلحة شرعية معتبرة، وبهذا تفسر اختلاف كثير من أحكام فقه المعاملات عما كان سائدا في التراث الفقهي؟
– بكل تأكيد.. والأئمة كانوا لا يتعاملون مع الآراء الفقهية فقط بهذا المنطق، وإنما مع بعض النصوص التي يمكن أن يظنها البعض قطعية الدلالة..
فمثلاً الإمام مالك يروي حديث النهي عن بيع المدبر، والمدبر معناه العبد الذي قال له سيده: “أنت حر بعد موتي”، وكأنه أوصى بعتقه، الإمام مالك روى هذا الحديث، فقيل له ما رأيك فيمن باع عبدًا مدبرًا، فقال: بيع فاسد؛ لأنه رأى أن النهي يوجب البطلان أو الفساد.. فقالوا: لو أن الذي اشتراه -أي العبد- أعتقه، فقال: مضى البيع ونفذ!
وهذا يؤكد أن الفقه الإسلامي لم يكن فقها عقيما وإنما هو فقه متطور، يملك من الآليات ما يستطيع من خلاله استيعاب كثرة الوقائع والمستجدات، فالإمام مالك هنا رأى في البداية أن النهي يقتضي فساد العقد، ولكنه حينما نظر إلى المصلحة وإلى مقصد الشرع جعل البيع نافذا، لأنه استلهم روح النص وليس ظاهره.
وروح النص كانت في صالح العبد الذي سيفوت عليه العتق لو تم بيعه؛ لأن المشتري الجديد لن يكون ملتزما بشيء تجاهه.. إذن العتق هو المقصد، فبأي وسيلة شرعية يتحقق سيدور الحكم معه، وعلى هذا بنى الإمام مالك حكمه في المسألة.
وأيضاً حينما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، والركبان هؤلاء هم المستوردون الذين يأتون بالسلع من مكان إنتاجها إلى مكان توزيعها، ونهيه -صلى الله عليه وسلم- عن تلقي الركبان، يعني أن يقف بعض الناس ينتظرون هؤلاء التجار في الطريق، ويشترون منهم بضاعتهم دون أن ينزلوا السوق، فلا يلتقي العرض بالطلب وهو القانون العادل..
والقاعدة الفقهية والقاعدة الاقتصادية في العالم كله، هي السعر العدل أو التمام، وهذا لا يتحدد إلا في حال العرض والطلب، أما عندما تمنع البضاعة من دخول السوق، فيقل الطلب أو ينعدم فترتفع الأسعار جدًّا، ثم هؤلاء الذين يشترون هذه السلع ويحتكرونها ينزلون بها في السوق بعد ذلك، ويرفعون أسعارها على الناس!
وهنا نجد الفقهاء حكموا ببطلان هذا البيع لو حدث؛ مؤكدين أن معيار المصلحة هنا هو سبب التحريم؛ لأن في البيع ضررا لأهل السوق، وبالتالي هم فسروا النص لمصلحة أهل السوق.. المستهلكين!
لكن، الشافعية مثلاً قالوا: لا.. هذا المنع أو النهي لمصلحة الجلاب –التجار- أنفسهم؛ لأنهم لا يعرفون الأسعار إلا إذا نزلوا السوق، وبالتالي من الممكن أنهم تعرضوا للتغرير، بأن قيل لهم إن الأسعار في الأسواق غير مجزية وبالتالي قاموا بالبيع.
والفارق هنا أنه بناء على فهم الشافعية هذا لا يكون البيع باطلاً؛ لأنه ربما قد اشتروا بسعر أفضل من سعر السوق، فتكفي أن تعطيهم –التجار- الخيار، في حق فسخ العقد، بمعنى أن التجار إذا تبين لهم أن الأسعار في السوق أغلى، وهؤلاء غبونهم، فلهم حق فسخ العقد.
وهذا التراث الفقهي يؤكد أن النص ينبغي أن يفسر، وأن يفهم، وأن يتم الاجتهاد فيه ومعه، في معناه، في سياقه، في دلالته، في تنزيله على الوقائع المختلفة.. نصوص الكتاب والسنة ليست نصوصاً جافة!
كل هذا أورده لأؤكد أن الفقه الذي ورثناه وتعلمناه داخل الأزهر كان فقها منطقيا، يعتمد على مبدأ المصلحة التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيقها.
طالع الجزء الأول نت الحوار:
د. حسين حامد حسان: حصلت على امتياز بـ”الموتوسيكل” (1-4)