يحتوي مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية على مفردتين: التطبيق، والشريعة الإسلامية، أما التطبيق فهو مصدر للفعل «طَبَّقَ»، وهذا الفعل له معانٍ كثيرة في المعاجم اللغوية خلاصتها -فيما يخص موضوعنا- أنه يأتي بمعنى غَطَّى، وعَمَّ، وقد طابَقْت بين الشَّيْئيْنِ: إذا جَعَلْتَهما على حَذْوٍ واحد، وطابَقَتِ المَرْأةُ زَوْجَها: إذا واتَتْه على أمورِه كلِّها، وجاء في «المعجم الوسيط»: إن «التطبيق» إخضاع المسائل والقضايا لقاعدة علمية أو قانونية أو نحوها، بينما في «معجم مصطلحات أصول الفقه» ورد التطبيق بمعنى التنزيل والتنفيذ والتحقيق.
أما الشريعة الإسلامية فهي: «كل ما شرعه الله للمسلمين من دين؛ سواء أكان بالقرآن نفسه، أم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير؛ فهي لهذا تشمل أصول الدين، أي ما يتعلق بالله وصفاته والدار الآخرة، وغير ذلك كله من بحوث علم التوحيد أو علم الكلام، كما تشمل كل ما يتعلق بتهذيب المرء لنفسه وأهله، وما يجب أن تكون عليه العلاقات الاجتماعية، والمثل الأعلى الذي عليه أن يعمل لبلوغه أو مقاربته، والطرق التي يريد بها أن يصل إلى هذا المثل أو الغاية من الحياة، وهذا كله هو ما يعرف باسم «علم الأخلاق»، ومع هذا أو ذاك، تشمل الشريعة أحكام الله تعالى لكل من أعمالنا، من حل وحرمة وكراهة، وندب، وإباحة» (د. محمد يوسف موسى، المدخل لدراسة الفقه الإسلامي).
وعلى هذا، فإن مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية يُقصد به، بصفة عامة: «تنزيل (أو تعميم أو تنفيذ أو إنفاذ) ما سنَّه الله تعالى من أحكام سواء في القرآن الكريم، أو أبلغها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على حياة الإنسان وعلاقاته المختلفة بربه وبالناس وبالكون».
بين الشريعة وتطبيقها
وهذا التمييز بين مصطلح الشريعة الإسلامية ومفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية تمييز ضروري؛ نظراً إلى أن البعض يخلط بين قداسة الشريعة الإسلامية ذات المصدر الإلهي، وتنزيلها على الواقع، وهو عمل بشري اجتهادي، قد يخطئ وقد يصيب، بحسب القدرة على فقه الواقع وفقه النص، والقدرة على المواءمة بينهما بحيث تتحقق مقاصد الشريعة الإسلامية بتحقيق مصالح الأنام الضرورية والحاجية والتحسينية.
وهو -أي الفرق بين الشريعة وتطبيقها- هو ذاته الفرق بين الدين والتدين، فالأول مطلق؛ لأنه وضع إلهي، والثاني نسبي؛ لأنه كسب بشري، مما يفرض الانتباه إلى التمييز فيما بينهما في الخصائص والأحكام، ويستلزم كذلك أن يكون التعامل مع كل منهما على نحو مختلف يراعي الاختلاف فلا يخلط بينهما مما قد يوقع الناس في حرج وقد يعسر عليهم كل يسير!
فتطبيق الشريعة الإسلامية ليس عملاً آلياً ينظر إلى أحكام الشريعة الإسلامية على أنها أحكام مكتملة باكتمال الدين، مصداقًا لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة: 3)، وليس على المسلمين سوى قبولها جملة وتطبيقها فوراً، أو رفضها جملة؛ فيتحملون وزر رفضهم وعدم تحكيمهم لشريعة ربهم، بل إن تطبيق الشريعة هو عمل يحتاج إلى اجتهاد بشري واسع، سواء كان هذا الاجتهاد في فهم النصوص أم في فقه الواقع الذي يراد تنزيل تلك النصوص عليه، وفي وضع منهج للتنزيل يتناسب مع كون قضية تطبيق الشريعة الإسلامية هي قضية إعادة لبناء الحضارة الإسلامية وليست مجرد إنفاذ لبعض النصوص الجزئية والفرعية للشريعة الإسلامية، على سبيل المثال.
وأحكام الشريعة لا تنطبق إلا بعد دراسة شاملة لواقع المجتمع، أو ما يمكن التعبير عنه بـ«السياق المجتمعي للتطبيق» أو «بيئة التطبيق»، لا سيما أن النصوص متناهية بينما أحداث الواقع المتجددة غير متناهية، «فلو لم يكن هناك اجتهاد لاستنباط أحكام لهذه الحوادث الجديدة، لوقفت الشريعة وما وسعت كل شيء» (محمد مصطفى شلبي، المدخل في الفقه الإسلامي).
الحاجة للاجتهاد
وتزداد الحاجة إلى الاجتهاد حين تكون حركة الواقع المتسارعة لم تصاحبها حركة موازية في الاجتهاد والتنزيل؛ أي إذا تحرك الواقع في ظل إقصاء لمرجعية الشريعة الإسلامية مثلما حدث في مصر في القرنين الماضيين، حيث طُبقت قوانين مستمدة من شرائع أجنبية، بينما تغير الواقع بشكل غير مسبوق في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ البشري كله.
ويضاف إلى ذلك أن «الشريعة هي أحكام كلية مجردة، والأوضاع الواقعية أوضاع عينية مستأنفة، وهو ما يستلزم اجتهاداً يُهيِّئ به الحكم الشرعي المجرد ليجري على الوضع الواقعي الذي يشمله محققاً للمقاصد التي من أجلها شرع دون غيره من الأوضاع التي قد تكون شديدة الشبه به، التي لو أجري عليها لتعطلت مقاصده، وأصاب الناس حرجٌ من جرّاء ذلك» (د. عبدالمجيد النجار، المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة).
ومن ثَمَّ فإن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية يستلزم اجتهاداً جديداً سواء في فهمها أم في تنزيلها، بما يشبه ما تحتاجه عملية الإفتاء بها؛ فالإفتاء ليس من شروطه معرفة النص مجرداً فحسب، بل يُشترط فيه كذلك فقه الواقع، وفقه تنزيل النص على الواقع، وكذلك اعتبار المآل، وسد الذرائع أو فتحها، بحسب ما يحقق من مصالح معتبرة شرعاً، وما يتطلبه ذلك من فقه الأولويات والموازنات، وما يجري على الإفتاء يجري من باب أَوْلَى على عملية الاجتهاد ككل.
بل إن الأمر أكبر من ذلك؛ فالاجتهاد ينبغي أن يمتد كذلك إلى العمل على إعادة تشكيل الواقع ليتوافق مع الشريعة، وهذا الأمر ضرورته لا تخفى على أحد، لأن من شأن الاستهانة به وعدم إعطائه أولوية قصوى في عملية التطبيق، أن يُنفِّر الناس من تطبيق الشريعة فيردونها، ولذلك نجد أن الإمام ابن القيم يقول في كتابه «إعلام الموقعين»: «فالواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يُلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم».
وقد نبه إلى الأمر نفسه كذلك أستاذنا د. أحمد كمال أبو المجد، في كتابه «رؤية إسلامية معاصرة.. إعلان مبادئ»، حين قرر أن نقل المجتمعات المعاصرة إلى الدخول من جديد تحت لواء تشريع الإسلام في تنظيمه الشامل لحياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع طول البعد عن هذا التشريع، أو غلبة انحراف الناس عنه، لا يعني إلغاء الأنظمة والتشريعات المعمول بها قبل إعداد البديل الإسلامي لها، كما أنه يقتضي من المشرِّعين والمجتهدين وأولي الأمر تقرير أحكام ونظم مؤقتة قائمة على قاعدة الضرورة أو قاعدة «عموم البلوى» التي قررها علماء المسلمين، وذلك رفعاً للحرج عن الناس، وتدرجاً في الأخذ من جديد بأحكام الإسلام، وهو ليس تدرجاً في التشريع، وإنما هو تدرج في نقل البيان إلى الناس.