الأسرة هي أعرق تنظيم اجتماعي عرفته الإنسانية، وقد اعترفت بها جميع الأديان والمجتمعات، وجاء الإسلام وأقر ما ذهبت إليه واعتبرها ضمن أولوياته الأخلاقية والتشريعية والاجتماعية.
وحظيت الأسرة ودورها في الاجتماع الإنساني بالتقدير حتى صعود الموجات النسوية الراديكالية التي قوضت مفهوم الأسرة وأحلت محلها أنماطا غير مألوفة وشاذة من الأسر.
فما موقع الأسرة في التصور الإسلامي؟ وما أبعاده المعرفية ومقاصده؟، وكيف يختلف عن التصور النسوي؟ ولماذا يناصبها العداء؟.
التصور الإسلامي للأسرة: أصل لا فرع
اهتم الإسلام بالأسرة اهتماما لا مزيد عليه، وهو ما يفهم من النصوص القطعية المتواترة من القرآن والسنة النبوية الصحيحة، ولا يصح أن يفهم أن غياب المصطلح ومشتقاته دليل على إغفال القرآن أمرها، ذلك أنه استعاض عنها بمصطلحات بديلة هي: الزوج، الآل، الأهل، كما أنه أشار إلى بنيتها الأساسية حيث قال جل شأنه: “قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة”، وهو هنا يشير إلى بعدي الزوجية وقوامها ذكر وأنثى، والمساكنة المعنوية.
وتوضح الأدبيات الفقهية أن الأسرة تنشأ بموجب عقد زواج يجمع بين رجل وامرأة، وأن الزواج لا يكون شرعيا إلا بثلاثة شروط، هي:
أن يكون بين رجل وامرأة تنتفي بينهما موانع التحريم بميثاق شرعي، وهو ما يعني استبعاد أي أشكال أخرى للعلاقة بين رجلين أو امرأتين، كما يعني استبعاد أي ممارسة جنسية تقع خارج إطار الزواج الشرعي.
أن ينشأ بقصد التأبيد لا التأقيت.
يقصد أساسا التكاثر وإنجاب الأطفال إسهاما في حفظ النوع والنسل البشري.
هذه الشروط تعد بمثابة الأركان الأساسية للأسرة في الإسلام، والتي لا تقوم إلا بها فإذا أضفنا إليها الأركان الأخرى من المساكنة والمودة والتراحم أمكن القول أنها بنية مؤسسية ذات إطار معنوي وأخلاقي.
مقاصد الأسرة في الإسلام
وقد فصل كثير من علماء المسلمين في بيان مقاصد الأسرة في الإسلام وعلى رأسها مقصد التكاثر الذي أفاض علماء الإسلام في بيانه ومنهم الشاطبي الذي جعله المقصد الأول للزواج بقوله “النكاح مشروع للتناسل بالقصد الأول”، وقوله “والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع؛ من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني”
ويعضده ابن تيمية الذي يفترض أن الله خلف في النفوس حب النساء ليتزوج بهن الرجال “ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل”، وأن عقوبة الزنا ما شرعت إلا لتضييع ماء النسل هباء.
وهناك المقصد الأخلاقي، ونعني به الإحصان والعفاف، وهو مقصد أعلى، إذ فيه مراعاة للطبيعة الإنسانية التي احترمها الإسلام واعتبرها ميلا فطريا ولم يسلك مسلك التعالي عليها كما هو الحال في النصرانية التي شجعت التبتل والرهبانية، وإنما حث أتباعه على الزواج.
وهناك كذلك مقصد العمران والاستخلاف الذي لا يتحقق إلا من خلال الأسرة التي لا تضم الزوجين والأبناء بل تنشئ روابط القرابة والنسب التي تندرج ضمن مسمى «الأهل»، ومجموع الأهالي هو الذي يكون الأمة.
ولذلك، فإن كون الأسرة صغيرة لا يلغي كونها جزءا من أسرة أكبر هي «العائلة» بل كونها جزءا من جماعة أكبر وهي أمة الإسلام والإنسانية.
وبالنظر إلى تلك المقاصد وإلى التشريعات القرآنية التي صاغها القرآن لضبط العلاقات الأسرية وصيانتها، يمكن القول بأن الأسرة تحتل موقعا مركزيا في التصور الإسلامي للإنسان والاجتماع الإنساني، وهي أصل من أصوله وليست فرعا هامشيا يمكن إبطاله أو الالتفاف حوله.
التصور النسوي للأسرة: تهميش وقمع
على الجهة المقابلة يصف الفكر النسوي الأسرة بأنها:
أولا، وحدة اجتماعية انتاجية ونواة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، تسودها علاقات التكامل التي تنشأ بفعل ضرورات الاعتماد المتبادل، وفي هذا إعلاء للبعد الاقتصادي/ المادي وتغليب له على الأبعاد المعنوية.
ثانيا، أبوية، حيث تتمركز سلطة اتخاذ القرارات والامتيازات بيد الرجل دون المرأة.
ثالثا، هرمية، إذ لا يزال التمييز قائما فيها رغم حدوث تغييرات اجتماعية جوهرية نتجت عن التوسع في تعليم النساء وخروجهن للعمل في المجال العام.
تنظر النسويات إلى الأسرة باعتبارها مصدرا للاستغلال واللامساواة العميقة، فقد دعت الباحثة النسوية الأمريكية بتي فريدن إلى النظر في ظاهرة العزلة والملل التي سيطرت على ربات البيوت اللواتي حكم عليهن بالعيش في دائرة مفرغة من الإنجاب وتربية الأطفال والعناية بهم.
وتلت ذلك أصوات أخرى تحدثت عن “الزوجة الأسيرة” وخلال السبعينيات والثمانينيات أفلح الضغط النسوي في إحداث تغيير في بنية العلوم الاجتماعية وضمنتها انتقاداتها فأصبحت أكثر توافقا مع الرؤية النسوية للأسرة.
وتتلخص الانتقادات النسوية للأسرة في ثلاثة انتقادات أساسية، وهي:
-تقسيم العمل، وبمقتضاه تتولى المرأة العمل في المجال الخاص من رعاية أطفال وطهو وهي أعمال غير مأجورة لا تتلقى مقابلها مالا على حين ينفرد الرجال بالعمل في المجال العام ويتلقى عليه أجرا يمنحه سلطة ونفوذا داخل الأسرة. وتذهب النظريات النسوية إلى أن هذا التقسيم ليس طبيعيا وإنما تشكل تاريخيا من خلال المجتمعات الذكورية، وأن بمقدور الرجال النهوض بأعباء المنزل والنساء الاشتغال بأعمال في المجال العام.
– العنف الأسري، وهو موضوع كان يتم تجاهله من قبل الدراسات الاجتماعية ومن الأوساط التشريعية على حد سواء كما تدعي النسويات، وبفعل الضغوط النسوية صدرت التشريعات التي تجرم إيذاء النساء، ووضعت قضية العنف الأسري على أجندة البحث الاجتماعي، وأكدت نتائج بعض الدراسات أن أسباب العنف لا تعود إلى سوء استخدام السلطة بل إلى “خلل وعطب” بنية الأسرة في حد ذاتها.
– رعاية الأطفال: وتنظر إليه المدرسة النسوية بوصفه “عبئا عاطفيا” على المرأة تتحمله المرأة للحفاظ على الصحة النفسية للأسرة، ويكلفها جهدا ومشقة لا يتم تقديرهما بأي شكل.
وانطلاقا من هذه الانتقادات تقترح النسوية بدائل لتحل محل مؤسسة الأسرة، وفي مقدمتها “المعاشرة” وهي أن يعيش رجل وامرأة تجاوزا سن البلوغ تحت سقف واحد حياة زوجية دون رابطة الزواج.
وقد تم إسباغ الطابع القانوني على هذه العلاقة في عدد من المجتمعات وأجيزت لهما حقوق التملك والإرث، كما تم الترويج للعلاقات المثلية وهي صيغة مثلى تفضلها النسويات الراديكاليات؛ لأنها تعني التخلص تماما من الهيمنة الذكورية.
وقد أضفي عليها القبول بعد أن اعتبرتها الدول الغربية شكلا من أشكال الأسر الرسمية، وصار بمقدور الشريكين فيها تبني الأبناء أو استئجار أحد الأرحام والحصول على أطفال بطرق غير مألوفة بل يمكن وصفها بالشذوذ ومجافاة الفطرة السوية.