الشيخ محمد الغزالي مفكر إسلامي معروف، اضطلع بواجب الجهاد الفكري والعلمي في وقت مبكر جداً من حياته، في وقت كانت الأمة، ولا تزال، تحتاج إلى:
– تجديد فكرها وروحها ونظمها الاجتماعية والسياسية والتعليمية.. داخلياً.
– من يرد عنها الغزو الفكري والثقافي والاجتماعي الخارجي الذي يريد أن يفتنها عن دينها ويجردها من سبب وجودها وهو الاهتداء بالإسلام وهداية الناس به.
يقول الشيخ في مطلع آخر كتاب أصدره وهو “قذائف الحق”:
“من خمسين سنة، عندما عقلت ما يجري حولي، أدركت أن نصف الإسلام ميت أو مجمد، وأن نصفه الآخر هو المأذون له بالحياة أو الحركة إلى حين.
وأحسست أن هناك صراعاً يدور في خفاء أحياناً، وعلانية حيناً بين فريقين من الناس؛ فريق يستبقي النصف الموجود من الإسلام، ويدفع عنه العوادي ويحاول استرجاع النصف المفقود، ويلفت الأنظار إلى غيابه، وفريق يضاعف الحجب على النصف الغائب ويريد ليقتله قتلاً، وهو في الوقت نفسه يسعى لتمويت النصف الآخر وإخماد أنفاسه وإهالة التراب عليه.
وكلما طال بي العمر كنت ألحظ أن المعركة بين الفريقين تتسع دائرتها وتشترك فيها إذاعات وأقلام، وجماعات وحكومات، ومناقشات ومؤامرات.
وكانت الحرب سجالاً، وربما فقد المؤمنون بعض ما لديهم وربحوا بعض ما أحرزه خصومهم وتنضم إلى معسكر الباطل قوى جديدة، ويزداد الصراع حدة وشدة كلما لاح أن الساعة الحاسمة تقترب.
ونحن نصدر هذا الكتاب في ظروف شديدة التعقيد.
أعداء الإسلام يريدون الانتهاء منه، ويريدون استغلال المصائب التي نزلت بأمته كي يبنوا أنفسهم على أنقاضها.
يريدون بإيجاز القضاء على أمة ودين، وقد قررنا نحن أن نبقى، وأن تبقى معنا رسالتنا الخالدة، أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة، ولو اقتضى الأمر أن نذهب في سبيلها لترثها الأجيال اللاحقة، من أجل ذلك نرفض أن نعيش وفق ما يريد غيرنا، أو وفق ما تقترحه علينا عقائد ونظم دخيلة”.
هذه بإيجاز قصة الشيخ المكافح، أخذ مكانه في قافلة المجاهدين في وقت مبكر، واستمر في جهاده وعقد النية على هذا الجهاد؛ “ولو اقتضى الأمر أن نذهب في سبيلها -رسالة الإسلام- لترثها الأجيال اللاحقة”.
في الجهاد العلمي الفكري المكتوب، ألَّف الشيخ محمد الغزالي أكثر من ثلاثين كتاباً، اتحدت غايتها وتنوعت مجالاتها([2]).
ألَّف في العقيدة، والسيرة، والخلق، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، وفي الصراع بين المسيحية والإسلام، رد على المستشرقين، ووضع للدعاة قواعد العمل وخريطة السير، وعرَّف بالإسلام، وألَّف “نظرات في القرآن”، وكشف أحقاد وأطماع الاستعمار الغربي، وتعقب الزحف الأحمر (الزحف الشيوعي) في معاقله، وأساليبه، وأهدافه، وكشفه كذلك.
وألَّف في أدب الدين والحياة والسلوك (انظر: تأملات في الدين والحياة، جدد حياتك، الجانب العاطفي من الإسلام).
في الجهاد الفكري المنطوق، التقى أفواجاً متتابعة من الدعاة، وألقى آلاف المحاضرات والخطب، واشترك في مئات الندوات.
لقد زار الكويت في رمضان بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لإثراء هذا الموسم الإسلامي العظيم بنضارة الفكر وري الدعوة، وكان لنا معه هذا اللقاء:
- فضيلة الشيخ، في العالم الإسلامي اليوم انتعاشة جديدة تتجه بالناس نحو إسلامهم، ما تفسيركم لهذا؟ أهي ظاهرة عابرة، أم اتجاه طبيعي؟ ثم ما الضمانات التي تعم هذه الانتعاشة بالاستقامة الفكرية والسياسية؟
– الأمة الإسلامية تعرضت -ولا تزال- لضغوط عنيفة ولعدوان ضار مستمر، والضغط الثقيل إما أن يقضي على الأمم، في حالة فقدانها لخصائص الصمود والنمو، وإما أن يوقظ خصائصها ويحشد طاقاتها، في حالة احتفاظها بعناصر المقاومة والبقاء.
والعدوان الضاري المستمر يهيج غرائز الحياة في الأمة ويرفع درجة استعدادها للرد والردع، ونستطيع أن نعلل ظاهرة الانتعاش الإسلامي الجديدة في العالم الإسلامي بالموقفين معاً؛ الاختيار الفكري للقبلة الإسلامية، الاستجابة الفطرية الغريزية للتحدي.
ومن الوعي البنَّاء أن نحذر الخطر الخارجي ونقاومه، لكن الإسراف في تفسير كل مصيبة تنزل بديارنا بأنها صنعت في الخارج لا يقود إلى رؤية سليمة ولا إلى موقف صحيح.
إن الأمة حين تتماسك داخلياً وتحصن جسدها من الأوباء، وتحسن الإنتاج والإبداع فيه، وتشغل نفسها بالعظيم من الأمور، لا تستطيع القوى الخارجية أن تنال منها.
الخلل الفكري والاجتماعي والاقتصادي والعلمي في البناء الذاتي للأمة هو الذي أغرى الخصوم بالتقدم داخل صفوفنا واقتحام حصوننا.
والضمانات التي تصون مبدأ الانتعاش الإسلامي من الانحراف والشطط والسلبية يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- إشباع شعوبنا بفيوض متلاحقة من العلم الصحيح والمعرفة السليمة، في الدين والدنيا، لقد نقل إلينا التاريخ الثقافي مجموعة من الخرافات المفسدة للفكر والسلوك، ثم جاءت خرافات محدثة -اختفت في أثواب العلم- فزادت الفساد والتخريب.
2- قيادة فكرية رشيدة ترعى الصحوة الإسلامية كما يرعى البستاني الخبير أشجار الفواكه والورود في حديقته، بالري والتفقد والتشذيب.
3- تنظيم حملات طويلة المدى لمكافحة الغلو المتمثل في طائفتين من الناس؛ طائفة المغالين في تجريد الدين من فعاليته وشموله، وطائفة المغالين في التشدد وإصدار الأحكام القاسية على الناس.
4- تخطيط مرحلي للعمل الإسلامي؛ كل مرحلة من العمل الإسلامي تكون بمثابة تمهيد لمرحلة تالية، فمن مفسدات الأعمال الخلل في ترتيب الواجبات، وعدم القدرة على توزيع الإمكانات المادية والزمن والقوى البشرية توزيعاً يضع كل شيء في موضعه.
هذه في -تقديري- هي الضمانات التي تجري النشاط الإسلامي في مجرى آمن.
- كيف تفسرون حرب لبنان؟ فلقد كثرت التفاسير السياسية والطبقية لهذه الحرب، لكن ما الجذور العميقة وراء هذا الصراع؟
– الحرب صليبية، هذه حقيقة لا يستطيع منصف أن ينكرها، وهذا التفسير لا يسقط الأسباب الأخرى من الحساب، فالسياسة الاستعمارية العالمية قررت أن يكون وجه لبنان مسيحياً، مع أن غالب سكانه من المسلمين.
والفرق العسكرية المارونية المقاتلة في لبنان لا تخفي شيئاً من نيتها وهدفها.
بيار الجميل نفسه يقول: إن للكتائب وظيفة رسولية؛ أي مهمة دينية سماوية.
والكيان الذي يراد فرضه -بالقوة والدم- على لبنان يكره العروبة والإسلام معاً، وهو يؤْثر الحديث بالفرنسية على العربية، ويبدي مقته الشديد للإسلام ونبيه وتاريخه وحضارته، وطبيعي أن يضيق المسلمون بهذا الوضع وأن يتململوا تحت ضغطه، وشدة الضغط تولد الانفجار.
خلاصة ما يريده الاستعمار أحد أمرين: إما تقسيم لبنان بين الطوائف والكتائب، وإما إبقاء لبنان غير مقسم على أن تكون الهيمنة فيه للمسيحية والذل فيه للإسلام، والعجب أن الحكومات العربية المجاورة تميل إلى الحل الأخير، وهي تستر الوجه الصليبي البارز في لبنان بأقنعة غربية، فهي تسمي المسيحيين باليمين والانعزاليين والفاشيست والإمبرياليين، حتى تستر الوجه الصليبي المعروف وتستر مخالبه الباطشة بقفازات من حرير.
والسؤال الذي نوجهه لأغنياء العرب والمسلمين بعد أحداث لبنان الرهيبة: ماذا سيفعلون بإزاء تأمين الكيان الصهيوني جغرافياً والإجهاز على المقاومة الفلسطينية التي تريد العودة لوطنها؟ وماذا سيفعلون بإزاء أكثرية مسلمة تريد أن تحيا وفق تعاليم دينها؟ وأخيراً، ماذا سيفعلون أمام قلة نصرانية ولاؤها ليس للعروبة وإنما ولاؤها وراء البحر الأبيض المتوسط؟
(1) العدد (321)، 26 شوال 1396هـ/ 19 أكتوبر 1976م.
(2) تجاوزت كتب الشيخ الستين، عدا مئات المقالات وآلاف الدروس والخطب والمحاضرات والأحاديث الإذاعية والتلفزيونية في عدة دول.