بعد استعراض الشيخ القرضاوي بروز الحاجة إلى دعوة إسلامية جديدة لتتولى مهمة البعث والإنقاذ، يكتب اليوم عن التميز ووضوح الشخصية في دعوة الإخوان.
أما التميز ووضوح الشخصية، فقد توافر في دعوة الإخوان من يومها الأول، فقد أعلنت من أول الأمر أنها “دعوة إسلامية صميمة” من الإسلام تستمد، وعلى الإسلام تعتمد، وإلى الإسلام تهدف، وبالإسلام تمضي، وعن الإسلام تصدر، غايتها الإسلام، ووسيلتها من الإسلام، ومردها إلى الإسلام.
من الإسلام حددت أهدافها، ومن الإسلام ردت مرجعيتها.
شعارات إسلامية: الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
وهتافات إسلامية: الله أكبر ولله الحمد، لا إله إلا الله، محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد حتى نلقى الله.
وأناشيدها إسلامية:
هو الحق يحشد أجناده
ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الكتائب أساده
ودكوا به دولة الباطل
يقول حسن البنا مجيباً عن سؤال يسأله الناس: ما أنتم أيها الإخوان؟ إننا لم نفهمكم بعد، فأفهمونا أنفسكم، وضعوا لأنفسكم عنواناً نعرفكم به، كما تعرف الهيئات بالعناوين، هل أنتم طريقة صوفية، أو جمعية خيرية أو مؤسسة اجتماعية أو حزب سياسي؟
ويقول حسن البنا لإخوانه: قولوا لهؤلاء المتسائلين: نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة.. طريقة صوفية.. وجمعية خيرية.. ومؤسسة اجتماعية.. وحزب سياسي نظيف.
وقد يقولون بعد هذا كله: ما زلتم غامضين فأجيبوهم: لأنكم ليس في يدكم مفتاح النور الذي تبصروننا على ضوئه، “نحن الإسلام” أيها الناس، فمن فهمه على وجهه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه، فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون.
وفي مقام آخر، يبين الأستاذ البنا حقيقة دعوة الإخوان في كلمات موجزة ولكنها قوية قوة الحق مضيئة إضاءة الهدى، عميق عمق الإيمان، فيقول:
“أيها الإخوان، أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزباً سياسياً، ولا هيئة موضعية الأغراض، محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة يحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مردداً دعوة رسول الله، ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس.
إذا قيل لكم: إلامَ تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه.
فإن قيل لكم: هذه سياسة، فقولوا: هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام.
وإن قيل لكم: أنتم دعاة ثورة، فقولوا: نحن دعاة حق وسلام، نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا، ووقفتم في طريق دعوتنا، فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا، وكنتم الثائرين الظالمين.
وإن قيل لكم: إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات، فقولوا: آمنا بالله حده، وكفرنا بما كنا به مشركين.
فإن لجوا في عدوانهم، فقولوا: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55).
إسلام الإخوان
وفي رسالة “دعوتنا”، وهي من الرسائل القديمة يتحدث الأستاذ تحت عنوان “إسلامنا” فيقول:
“اسمع يا أخي: دعوتنا دعوة أجمع ما توصف بأنها “إسلامية”، ولهذه الكلمة معنى واضح غير ذلك المعنى الضيق الذي يفهمه الناس، فإنا نعتقد أن الإسلام معنى شامل ينتظم شؤون الحياة جميعاً، ويفتي في كل شأن منها، ويضع له نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوفاً أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لا بد منها لإصلاح الناس”.
وينكر الأستاذ فهم بعض الناس خطأ: أن الإسلام مقصور على ضروب من العبادات، أو أوضاع من الروحانية، حصروا أنفسهم وأفهامهم في دائرتها الضيقة.
ويقول: “لكنا نفهم الإسلام على غير هذا الوجه، فهماً فسيحاً واسعاً ينتظم شؤون الدنيا والآخرة، ولسنا ندعي هذا الادعاء، أو نتوسع فيه من أنفسنا، وإنما هو ما فهمناه من كتاب الله وسُنة رسوله وسيرة المسلمين الأولين، فإن شاء القارئ يفهم دعوة الإخوان بشيء أوسع من كلمة “الإسلامية” فليمسك بمصحفه، وليجرد نفسه من الهوى والغي، ثم يتفهم ما عليه من القرآن، فيسري في ذلك دعوة الإخوان.
أجل، دعوتنا “إسلامية” بكل ما تحتمل الكلمة من معان، فافهم فيها ما شئت بعد ذلك، وأنت في فهمك هذا مقيد بكتاب الله وسُنة رسوله، وسيرة السلف الصالحين من المسلمين، فأما كتاب الله فهو أساس الإسلام ودعامته، وأما سُنة رسوله فهي مبينة الكتاب وشارحته، وأما سيرة السلف الصالح فهم رضوان الله عليهم منفذو أوامره والآخذون بتعاليمه، وهم المثل العملية والصورة الماثلة لهذه الأوامر والتعاليم”.
الإخوان حركة إسلامية فاعلة
كما تميزت دعوة الإخوان بإسلاميتها الواضحة: إسلامية المصدر، إسلامية المنطلق، إسلامية الغاية، إسلامية الوسيلة، فقد تميزت بأمر آخر، وهو أنها لم تكن مجرد جماعة وعظية تلهب مشاعر الجماهير بالخطب البليغة، ولا محض جمعية خيرية، تعمل في خدمة المجتمع، وإشاعة البر، ونفع الفقراء، والضعفاء فيه، وإن كان الوعظ والإرشاد من وسائلها، وفعل الخير جزءاً من أعمالها.
ولكن أراد مؤسسها رحمه الله أن تكون “حركة إسلامية” إيجابية فاعلة محركة للأمة، معبرة عن الإسلام كل الإسلام، بعد أن جعله الناس “لحماً على عظم” وقطعوه إلى قطع وأجزاء، ولم ينظروا إليه نظرة كلية، ولم يربوا الأمة على الالتزام به، والدعوة إليه والجهاد في سبيله.
كان هذا المعنى واضحاً في عقل الأستاذ البنا من قام بدعوته، كما يبدو من مقالاته ورسائله الأولى، وعبر عنه في أكثر من موضع بعبارات مشرقة.
ومن هذه العبارات ما قاله في رسالة “الإخوان تحت راية القرآن”، تحت عنوان “طبيعة فكرتنا”:
“يا أيها الإخوان المسلمون.. بل أيها الناس أجمعون.. لسنا حزباً سياسياً وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا..
ولسنا جمعية خيرية إصلاحية، وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا.. ولسنا فرقاً رياضية، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا.
لسنا شيئاً من هذه التشكيلات، فإنها جميعاً تبررها غاية موضعية محدودة لمدة معدودة، وقد لا يوحي بتأليفها إلا مجرد الرغبة في تأليف هيئة، والتحلي بالألقاب الإدارية فيها.
ولكننا أيها الناس فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع ولا يقيده جنس، ولا يقف دون حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين.
نحن أيها الناس –ولا فخر– أصحاب رسول الله، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص: 88).
وهكذا كان الإمام البنا رحمه الله حريصاً على ألا تكون دعوته أو جماعته مجرد تشكيلات إدارية، أو رياضية أو كشفية أو خيرية، بل حركة إسلامية إيجابية، تحمل في القرن الرابع عشر الهجري روح الصحابة في القرن الأول.
مصطلح “الحركة الإسلامية”
وقد شاع مصطلح “الحركة الإسلامية” في أدبيات “الإخوان المسلمين” في مصر، منذ وقت مبكر، كما شاع في أدبيات “الجماعة الإسلامية” التي أسسها الإمام أبو الأعلى المودودي في الهند قبل أن تقسم إلى دولتين؛ الهند وباكستان، وتنطق في لغة الأوردو “تحريك إسلامي”.
فقد كان المصطلح المشهور المعبر عن التيار الإسلامي من قبل –أيام جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده– هو تعبير “الجامعة الإسلامية”، كما هو معروف في مقالات “العروة الوثقى”، ومقالات الشيخ محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا بعد ذلك.
وكلا العنوانين أو المصطلحين يعبر عن مرحلته وعن مضمون دعوته أو ملخصها، وكان مضمون الدعوة في مرحلة “العروة الوثقى” هو “جمع الأمة” وتوحيد صفوفها لمواجهة الاستعمار، أما مضمون الدعوة في مرحلة حسن البنا فهو “تحريك الأمة”، تحريك عقولهم حتى تفهم، وتحريك قلوبها حتى تؤمن، وتحريك إرادتها حتى تصمم، وتحريك أيديها حتى تعمل، “وإن كان جمع الأمة وتوحيدها من الأهداف الأساسية للحركة أيضاً”.
ويبدو أن هذا المصطلح شاع في مقابل مصطلح آخر راج في فترة من الزمن في أقطار عربية وإسلامية شتى، هو مصطلح “الحركة الوطنية” أو “الحركة القومية”، وكان كثير من دعاة هذه الحركات -وخصوصاً الحركة القومية– يعادون التيار الإسلامي، ودعاة الإصلاح الإسلاميين، ويعتمدون الغرب وفلسفته وحضارته مرجعاً فكرياً وقيمياً لهم، ومصدر الإلهام ومصدر الإلزام.
وهذا واضح لمن يدرس نشوء “الحركة القومية الطورانية” التي ظهرت في تركيا، دولة الخلافة العثمانية، التي كانت تعادي العروبة والإسلام، وأنشأت حزب “الاتحاد والترقي” التي انتهت بتهديم قلعة الخلافة، التي كانت تمثل آخر تجمع للأمة الإسلامية تحت راية الإسلام.
كما هو واضح في نشوء “حركة القومية العربية” الأولى التي كانت لها صلة معروفة بالماسونية، التي قادها في الأصل غير المسلمين.
على أي حال، لقد ظهر مصطلح “الحركة الإسلامية” وذاع على ألسنة وأقلام كتَّاب الحركة وغيرهم، وغدا مفهومها ينسب إليه، فيقال: الفكر الحركي، والدعوة الحركية، والتربية الحركية، والعمل الحركي.. إلخ، نسبة إلى الحركة الإسلامية.
الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية
ولا غرو أن أصدر أ.د. إسحاق موسى الحسيني كتاباً بعنوان “الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة”، وهو دراسة علمية موضوعية محايدة إلى حد كبير عن حركة الإخوان، على عكس بعض الدراسات التي كانت قد صدرت عن بعض التيارات المعادية للإسلام عموماً، وللإخوان خصوصاً، التي اتسمت بالهجوم والتحامل والتصيد للشبهات، بل الاختلاق للتهم أحياناً.
وقد أنصف د. الحسيني الإخوان أيضاً في عنوان كتابه حين أطلق عليهم “كبرى الحركات الإسلامية الحديثة”، ولا يزال هذا الوصف صادقاً إلى اليوم، بل اكتسب صدقية أكبر وأوسع، حيث اتسعت الحركة، ليكون لها أعضاء مشتركون وأنصار معاهدون في معظم أقطار العالم العربي والإسلامي تقريباً، بل وخارج العالم الإسلامي، في أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى وغيرها من بلدان العالم، في أكثر من سبعين دولة في القارات الست.
والإخوان المسلمون ليست كبرى الحركات الإسلامية فحسب، بل هي أم الحركات الإسلامية أيضاً، فهي الأصل والأساس، ولا سيما في العالم العربي، والحركات الأخرى التي تنتسب إلى الإسلام، إما ناشئ بعدها، وإما فرع عنها وامتداد لها، وإما انشقاق عنها وخروج عليها.
المقصود بمصطلح “الحركة الإسلامية”
ولكن ماذا نقصد بـ “الحركة الإسلامية”؟ وبعبارة أخرى: ما المفهوم العلمي المحدد لكلمة “الحركة الإسلامية”؟ إذا أطلقنا فإن “تجديد المفاهيم” أمر واجب، حتى لا تترك مائعة رجراجة يفهمها كل فريق كما يحلو له، فهذا يشرق وهذا يغرب، فماذا نريد بكلمة “الحركة الإسلامية” بالضبط؟
لقد تعرضت لذلك في كتابي “أولويات الحركة الإسلامية”، وقلت فيه: نريد بالحركة الإسلامية: ذلك العمل الشعبي الجماعي المنظم للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع، وتوجيه الحياة كل الحياة بأوامره ونواهيه، وتشريعاته ووصاياه.
فالحركة الإسلامية قبل كل شيء عمل، وعمل دائب متواصل، ليست مجرد كلام يقال، أو خطب تلقى، أو محاضرات تنظم، أو كتب تؤلف، ومقالات تنشر، وإن كان هذا كله مطلوباً طلباً مؤكداً بلا ريب، ولكنه جزء من حركة، وليس هو الحركة، والله تعالى يقول: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105).
الحركة عمل على مستويات عدة
إن الحركة الإسلامية عمل متكامل على مستويات عدة:
إنها عمل فكري تنويري يضيء العقول، وهي عمل دعوي تحريضي يحرك المشاعر، وهي عمل تكويني تربوي ينشئ الشخصية المسلمة، وهي عمل اجتماعي يساهم في حل مشكلات المجتمع وإشاعة الخير فيه، وهي عمل اقتصادي يحرر اقتصاد الأوطان المسلمة من التبعية المطلقة للغرب ومن رجس الربا والمعاملات المحظورة، وهي عمل سياسي لإقامة حكم الإسلام، وإعادة دولته، وتطبيق شريعته، وتوحيد أمته، وهي عمل جهادي لتحرير أرض الإسلام في المشرق والمغرب من كل سلطان أجنبي أو طغيان داخلي.
الحركة عمل شعبي محتسب
وهي عمل شعبي يقوم أساساً على الانبعاث الذاتي، والاقتناع الشخصي، إيماناً واحتساباً، وابتغاء ما عند الله لا ما عند الناس.
والأصل في هذا الانبعاث: هو هذا التوتر الذي يحس به المسلم حين تدركه الصحوة، ويوقظه الوعي، وتمور به أعماقه، نتيجة التناقض بين إيمانه من جهة، وواقع أمته من جهة أخرى، فينطق من حبه لدينه، ونصحه لله ولرسوله ولكتابه ولأمته، وشعوره بتقصيره وتقصير الجماعة من حوله، وحرصه على أداء الواجب واستكمال النقص، والإسهام في إحياء الفرائض المعطلة.
قصور العمل الرسمي
هذا العمل الشعبي المحتسب هو الذي ينشئ الحركة الإسلامية، أما العمل الحكومي الرسمي، أو شبه الرسمي، مثل إنشاء مجالس عليا، أو اتحادات أو روابط للشؤون الإسلامية، تشرف عليها وزارات الأوقاف أو غيرها من الأجهزة التابعة للدولة، فقد يسهم في خدمة الإسلام وأهله بنصيب يقل أو يكثر، وفقاً لنية القائمين عليه وهمتهم، ومقدار ولائهم لدينه، ولكن هذا العمل –في الأغلب– قاصر، ومعيب من عدة أوجه:
1- إنه يدور في فلك السياسة المحلية للدولة التي تنشئه، وتنفق عليه.
2- إنه لا يقوم –غالباً– على أناس يفرزهم العمل، ويصهرهم الجهاد، ويبرزهم الميدان، بل على “التعيين” من رجال ترضى عنهم الدولة المنفقة، ويحرصون على إرضائها، وأنا أتحدث هنا عن الأعم الأغلب، وإلا فقد يوجد بين “الرسميين” من يفوق بعض العاملين “الشعبيين” إخلاصاً لله، وغيرة على دينه، وعملاً لتمكينه.
3- إنه كثيراً ما تنقصه النية الصادقة لنصرة الإسلام، بل قد يراد به كسب سياسي خالص.
4- إنه –لهذا كله– متهم من الجماهير والشعوب، معزول عن مشاعرها وتأييدها.
ولهذا كله لا يستطيع العمل الإسلامي الرسمي أو شبه الرسمي –في غيبة الحكم الإسلامي– أن ينشئ حركة إسلامية حقيقية، وإن كان يستطيع –بما لديه من إمكانات– أن يقوم ببعض الخدمات العلمية والعملية، وتقديم المعونات المادية والأدبية للعمل الإسلامي الشعبي ومؤسساته، وخصوصاً إذا كان على رأسه بعض المخلصين الشجعان.
الحركة عمل جماعي منظم
والحركة الإسلامية –إلى جوار أنها عمل شعبي محتسب– هي “عمل جماعي منظم”، فلا يكفي أن يقوم أفراد محتسبون مخلصون من هنا وهناك، يعملون متناثرين للإسلام، وإن كان عملهم مفيداً ومرصوداً لهم في ميزانهم عند الله، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، وكل امرئ يجزى بما قدم حسب نيته وإتقانه: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7)، (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (النساء: 40).
ولكن “العمل الفردي” في واقع الأمة الإسلامية المعاصر لا يكفي لسد الثغرة، وتحقيق الأمل المرتجى، بل لا بد من “عمل جماعي”، وهذا ما يوجبه الدين ويحتمه الواقع.
فالدين يدعو إلى “الجماعة”، ويكره “الشذوذ”، فيد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولا صلاة لمنفرد خلف الصف، ولا لمتقدم على الصف، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، والتعاون على البر والتقوى فريضة من فرائض الدين، والتواصي بالحق والصبر أحد شروط النجاة من خسران الدنيا والآخرة.
والواقع يحتم أن يكون العمل المثمر جماعياً، فاليد الواحدة لا تصفق، والمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته، والأعمال الكبيرة لا تتم إلا بجهود متضافرة، والمعارك الحاسمة لا يتحقق النصر فيها إلا بتضام الأيدي، وتعاضد القوى، كما قال القرآن: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (الصف: 4).
يؤكد هذا أن القوى المعادية لرسالة الإسلام وأمته لا تعمل بطريقة فردية ولا في صورة فئات مبعثرة، بل تعمل في صورة تكتلات وتجمعات منظمة غاية في التنظيم، لها هياكلها، ولها أنظمتها، ولها قيادتها المحلية والإقليمية والعالمية.
ومن الواجب علينا أن نحارب أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به، لا يجوز لنا أن نحارب المدفع بالعصا، ولا الدبابة بالحصان أو البغل، كما لا يجوز لنا أن نقاوم العمل الجماعي بالعمل الفردي، والعمل المنظم بالعمل المبعثر، فالفوضى لا تقاوم النظام، والفرد لا يقاوم الجماعة، والحصاة لا تقاوم الجبل.
والقرآن الكريم يحذرنا من ذلك حين يقول: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73)، ومعنى “إلا تفعلوه” أي: إن لم يوال بعضكم بعضاً، ويساند بعضكم بعضاً، ويلتحم بعضكم ببعض؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، وأي فتنة وأي فساد أكبر من أن تتجمع قوى الكفر، وتتفرق قوى الإسلام، وأن يتلاحم الباطل ويتمزق الحق! فهذا هو الخطر الكبير، والشر المستطير.
ولا بد أن يكون العمل الجماعي منظماً، قائماً على قيادة مسؤولة، وقاعدة مترابطة، ومفاهيم واضحة، تحدد العلاقة بين القيادة والقاعدة، على أساس من الشورى الواجبة الملزمة، والطاعة المبصرة اللازمة.
فالإسلام لا يعرف جماعة بغير نظام، حتى الجماعة الصغرى في الصلاة تقوم على النظام، لا ينظر الله إلى الصف الأعوج، ولا بد للصفوف أن تتراص وتتلاحم، ولا يجوز ترك ثغرة في الصف دون أن تُملأ، فأي فرجة تُهمل يسدها الشيطان، المنكب بجوار المنكب، والقدم بجانب القدم، وحدة في الحركة والمظهر، كما أنها وحدة في العقيدة والوجهة؛ “لا تختلفوا فتختلف قلوبكم”.
يعدل الإمام الصف خلفه حتى يستقيم ويتصل، وينصح من وراءه أن “لينوا بأيدي إخوانكم”، فالجماعة تقتضي قدراً من الليونة والمرونة لموافقة سائر الصف.
وبعد ذلك تكون الطاعة للإمام؛ “إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا”.
ولا يقبل من أحد أن يشذ عن الصف، ويسبق الإمام فيركع قبله أو يسجد قبله، ويحدث نشازاً في هذا البناء المنظم المتناسق، فمن فعل ذلك يخشى أن يمسخ الله رأسه رأس حمار.
ولكن هذا الإمام إذا أخطأ، فإن مِنْ حق مَنْ وراءه –بل مِن واجبه– أن يصحح خطأه، سواء أكان من غلط أم سهو، وسواء أكان الخطأ في القول أم الفعل، في القراءة أم في أركان الصلاة الأخرى.
حتى إن المرأة في الصفوف البعيدة تصفق بيدها: لينتبه الإمام إلى خطئه.
إنها صورة مصغرة لنظام الجماعة الإسلامية، وما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين القيادة والجندية، فليست إمامة معصومة، ولا طاعة عمياء مطلقة.
هذا ما وعاه حسن البنا الشاب العبقري وفقهه حين أسس –وهو ابن الثانية والعشرين من عمره– حركته الإسلامية المباركة، ولم يكتف بالخطب والدروس والوعظ والإرشاد العام، على أهميته، بل رأى بنور بصيرته أنه لا بد من التكوين بعد التنبيه، ومن التأسيس بعد التدريس، كما عبر هو بقلمه.
-مهمة الحركة تحديد الإسلام
إن الحركة الإسلامية إنما قامت لتجديد الإسلام والعودة به إلى قيادة الحياة من جديد، بعد أن عُزل الإسلام عن قيادة الحياة وتوجيهها في شتى المجالات؛ في مجال السياسة والحكم، وفي مجال التشريع والتقنين، وفي مجال الفكر والتثقيف، وفي مجال التعليم والإعلام، وفي مجال الآداب والتقاليد، وفي مجال المال والاقتصاد.
والذي صنع هذا وعزل الإسلام عن موقعه في الحياة والمجتمع –بمكر ودهاء وتخطيط خبيث– إنما هو الاستعمار، الذي استولى على أوطان المسلمين، ووضع الأغلال في أعناقهم والقيود في أرجلهم.
و”تجديد الإسلام” ليس تعبيراً من عندي، إنه تعبير نبوي نطق به الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها”، وتجديد الدين يعني: تجديد الفهم له، وتجديد الإيمان به، وتجديد العمل بأحكامه وآدابه، وتجديد العمل له والدعوة إليه والجهاد في سبيله.
ولقد كان اتجاه أغلب شراح هذا الحديث إلى أن كلمة “مَن” فيه تعني “فرداً” واحداً معيناً، يقوم بتجديد الدين، وحاولوا بالفعل تعيينه في الغالب من العلماء والأئمة الأعلام ممن تكون وفاته قريبة من رأس قرن مضى، بيد أن بعضهم نظر إلى أن “مَن” في الحديث تصلح للجمع كما تصلح للفرد، فيجوز أن يكون المجدد جماعة لا واحداً، وهذا ما رجحه ابن الأثير في كتابه “الجامع للأصول”، والحافظ الذهبي، وغيرهما.
وأزيد على هذا أمراً آخر فأقول: ليس من الضروري أن يكون المجدد جماعة بمعنى عدد من الأفراد هم فلان وفلان، بل جماعة بمعنى مدرسة وحركة فكرية ودعوية وعملية تقوم بتجديد الدين متضامنة، وهذا ما أرجحه في فهم هذا الحديث الشريف.
وأعتقد أن المدرسة أو الحركة الأولى التي جسدت “التجديد” الإسلامي في هذا القرن –خلال سبعين عاماً– هي حركة الإخوان المسلمين، وهذا لا ينفي أن لغيرها من الجماعات والأفراد نصيباً في التجديد يقل أو يكثر، ولا يجوز لنا أن نبخس الناس أعمالهم.
المقومات الأساسية للتجديد
والتجديد الذي قامت به الحركة الإسلامية كان يتجسد في أمور ثلاثة جعلتها نصب عينيها، تعتبر المقومات الأساسية للتجديد.
الأول: تكوين طليعة إسلامية قادرة –بالتكامل والتعاون– على قيادة المجتمع المعاصر بالإسلام دون تقوقع ولا تحلل، وعلى علاج أدواء المسلمين من صيدلية الإسلام نفسه، بتجديد الاجتهاد بشروطه وضوابطه، وإعداد المجتهدين القادرين على الجمع بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة، دون تعصب لرأي قديم، ولا عبودية لفكر جديد، طليعة تستلهم الماضي، وتعايش الحاضر، وتستشرف في المستقبل، طليعة يجمع بين أفرادها: الإيمان العميق، والفقه الدقيق، والترابط الوثيق.
والثاني: تكوين رأي عام إسلامي يمثل القاعدة الجماهيرية العريضة، التي تطالب بتطبيق الإسلام في كل جوانب الحياة، وتنتصر له، وترى فيه خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة، وتقف وراء الدعاة إليه، تحبهم وتساندهم، وتشد أزرهم، بعد أن وعت مجمل أهدافهم، ووثقت بإخلاصهم وقدرتهم، ونفضت عنها غبار التشويش والتشويه للإسلام ورجاله وحركاته.
والثالث: تهيئة مناخ عام عالمي كذلك يتقبل وجود الأمة الإسلامية، حين يتفهم حقيقة الرسالة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، ويتحرر من العقد الخبيثة، التي تركها تعصب القرون الوسطى، في أعماق نفسه، ومن الأباطيل التي خلفها الكذب والتشويه في أم رأسه، رأي عام يفسح صدره لظهور القوة الإسلامية بجوار القوى العالمية الأخرى، مدركاً أن من حق المسلمين أن يحكموا أنفسهم وفق عقيدتهم، باعتبارهم أغلبية في بلادهم، كما تنادي بذلك مبادئهم الديمقراطية التي يتغنون بها، وأن من حقهم أن يدعوا إلى رسالتهم الربانية الإنسانية العالمية، باعتبارها إحدى الرسالات أو “الأيديولوجيات” الكبرى في العالم التي لها ماض وحاضر ومستقبل، يدين بها مليار وثلث مليار من الناس في دنيانا التي نعيش فيها، وهم يمثلون 24% من سكان العالم، وتهيئة المناخ يتطلب من الحركة أن تشرح الإسلام للعالم بلسان العصر، وتقدمه للناس بشموله وتكامله وتوازنه، ويسره وسماحته، وترد عن ساحته الشبهات والمفتريات.
إن الذي قام بالدور الأكبر في تجديد الدين على رأس هذا القرن هو “الحركة الإسلامية” بمدلولها الواسع، التي يشرفني أن أكتب هذه السطور اليوم عنها.
ولا يسعفني الوقت ولا الجهد ولا المعرفة أن أكتب عن كل الحركات الإسلامية، ولكني أكتفي بالحديث عن أم هذه الحركات وكبراها.
وأستطيع أن أقول في غير لبس ولا مبالغة: إن الحركة الإسلامية –التي يمثلها الإخوان المسلمون– قامت بدور بارز في تجديد الإسلام في هذا القرن.
وتجديد الإسلام لا يعني إصدار طبعة جديدة منقحة منه، فمصادر هذا الدين ثابتة خالدة، وفي مقدمتها القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصحيح السُّنة المبينة بالقرآن.
ولا يمكن زيد أو عمر من الناس أن يأتي بإسلام جديد يقدمه غير إسلام القرآن وما بيَّنه من صحيح السُّنة.
ومهما حاول المستشرقون أن يبثوا فكرة وجود “إسلامات” متعددة بتعدد الأعصار أو بتعدد الأقطار، بدعوى أن هناك إسلاماً راشدياً، وإسلاماً أموياً، وآخر عباسياً، ورابعاً عثمانياً، كما أن هناك إسلاماً آسيوياً وآخر أفريقياً، أو إسلاماً عربياً وآخر عجمياً.. إلى آخر هذه التقسيمات، فالحق الذي لا ريب فيه أن الإسلام المعترف به هو الإسلام كما جاء به القرآن الكريم، وكما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما فهمه الصحابة ومن تبعهم بإحسان وطبقوه في حياتهم العملية.
وهنالك جملة دراسات تناولت حركة الإخوان، صدرت بالعربية وغيرها، تتفاوت في نواياها وفي مناهجها وفي نتائجها، ولا ريب أن بعضها متحامل على الجماعة، ولا يكتب عنها إلا بقصد تشويه صورتها، وتضخيم سلبياتها إن وجدت، فإن لم توجد حاول أن يختلقها، وكذلك يحاول إخفاء محاسنها بل والافتراء عليها.
ولكن بعضاً آخر يميل إلى الإنصاف، أو يحاول أن يبدو في مظهر المنصف، ولكن تحكمه أمور لا تخفى على الدارس المتعمق:
أولها: قصور المعلومات اللازمة عن الإخوان، وعلاقاتها المختلفة، ومواقفها المتنوعة، وغاياتها المنشودة، ودوافعها المحركة، ومعاييرها المحكمة، فهذه الأمور مجهولة لدى أكثر الكاتبين، وهناك معلومات ما زالت في صدور أصحابها، ومعلومات في وثائق لم تنشر، أو لم تجمع لتكون في متناول الدارسين.
ثانيهاً: تضليل المصادر التي يعتمد عليها الكثيرون؛ لأنها من صنع خصومهم، سواء أكانوا في الداخل أم في الخارج، وهناك وقائع شتى حرفت على حقيقتها أو وضعت في غير مكانها وزمانها، فأخذت أكبر أو أصغر من حجمها.
ثالثها: أن كل كاتب ينظر إلى الحركة من منطلقه الفكري الخاص، ويحاكمها إلى مسلَّماته العقلية والأيديولوجية.
ولهذا نجد الماركسي يحكم عليهم بغير ما يحكم الليبرالي، وذا التفكير الديني يحكم عليها بغير ما يحكم به ذو التفكير العلماني، والمتطرف –من ذوي التفكير الديني– يحكم عليها بغير ما يحكم المعتدل، والسلفي يحكم عليها بغير ما يحكم به الصوفي.. وهكذا.
* العدد (1354)، ص44-47 – 1 ربيع الأول 1420ه – 15/6/1999م.