حركة الإخوان المسلمين –كما ذكرنا– حركة إسلامية تجديدية إصلاحية، مهمتها الأولى تجديد الإسلام في حياة الأمة المسلمة، ولكن هذه الحركة لها خصائص تميزها عن غيرها مما سبقها، وما عاصرها من الحركات والدعوات الإصلاحية والتجديدية الإسلامية، لعل أبرز هذه الخصائص ثلاث، نركز عليها الحديث هنا:
الأولى: النظرة الشمولية للإسلام.
الثانية: الاتجاه إلى التجميع والتوفيق، لا التنفير والتفريق.
الثالثة: العناية بالتكوين والبناء التربوي المتكامل.
1- النظرة الشمولية للإسلام:
كان من أظهر الخصائص التي تميزت بها حركة الإخوان المسلمين “نظرتها الشمولية” للإسلام، فلم تفهم الإسلام كما فهمه كثيرون، خصوصاً في عصور التخلف الحضاري، والجمود الفكري، بوصفه عقائد وعبادات شعائرية، ولا صلة له بقضايا المجتمع، وشؤون الدولة، ومسارات السياسة والاقتصاد، وتيارات الثقافة والفكر، والاستعمار الغربي –الذي احتل أكثر ديار المسلمين وهيمن على مقدرات حياتهم– هذا التوجه الذي يحصر الدين في حنايا الضمير، فإن أجيز له الخروج منه، فلا يتعدى جدران المسجد.
لقد رفض الإخوان هذه النظرة الجزئية القاصرة المقتصرة للإسلام، ورأوا أن الاسم يتميز بشموله الزماني والمكاني والإنساني، الذي عبر عنه حسن البنا في مقاله “من وحي حراء”، فأبلغ في التعبير، وقال: إنه الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة، لقد حذف الناس من الإسلام ما هو من صميمه وصلبه.
حذفوا منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فريضة إسلامية، وسبب خيرية هذه الأمة، ومن أجل أوصاف المؤمنين والمؤمنات، كما قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، فقدم الأمر والنهي على الإيمان، إيذاناً بأهميته، وقال سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) (التوبة: 71)، فقدم الأمر والنهي على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد يعبر عن هذه الفريضة بـ “التواصي بالحق” كما في سورة “العصر”.
وقد يعبر عنها بـ “النصيحة في الدين” كما في حديث تميم الداري في صحيح مسلم: “الدين النصيحة”، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.
وحذفوا منه الجهاد في سبيل الله، وهو ذروة سنام الإسلام، وخصوصاً إذا اعتدى عدو على أوطان المسلمين وحرماتهم، كما صنع الاستعمار الذي احتل ديارهم، وكما فعلت الصهيونية التي اغتصبت القبلة الأولى للمسلمين، وأرض الإسراء والمعراج، والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وكما صنعت الشيوعية التي احتلت أرض الإسلام في آسيا، وأوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان وأذربيجان وغيرها، والفقهاء مجمعون على أن الكفار إذا دخلوا بلداً مسلماً ففرض عين على أهلها مقاومتهم وطردهم، وفرض على المسلمين كافة أن يعينوهم بالمال والرجال والسلاح، وكل ما يحتاجون إليه، فالمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
وحذفوا منه الحكم بما أنزل الله، وهو فريضة مؤكدة، فإن الله تعالى لم ينزل كتابه ليتلى على الأموات، ولكن ليحكم الأحياء، وقد قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45)، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47)، صحيح أن هذه الآيات نزلت في شأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وفي تحكيم التوراة والإنجيل، ولكنها جاءت بلفظ عام يشمل كل ما أنزل الله وكل من لم يحكم به، ولا يعقل أن يكون القرآن الخالد المعجز الشامل الذي أنزل الله على المسلمين، دون ما أنزل الله على اليهود والنصارى، كما لا يتصور أن يوصفوا بالكفر أو الظلم أو الفسوق، أو بها جميعاً، إذا تركوا ما أنزل الله عليهم، ولا يوصف المسلمون بشيء من ذلك إذا أعرضوا عن كتابهم، وحذفوا من الإسلام، وحدة الأمة المسلمة التي ذكرها الله في كتابه وجعل المسلمين “أمة وسطاً” كما جعلهم “خير أمة”، وقال لهم: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (الأنبياء: 92).
وأكد الإسلام هذه الوحدة بأحكام أساسية ثلاثة:
1- وحدة المرجعية العليا، وهي للشريعة المتمثلة في الوحي الإلهي؛ القرآن والسُّنة.
2- وحدة دار الإسلام، فكل أوطان المسلمين –وإن تباعدت– دار واحدة.
3- وحدة القيادة المركزية، التي تتمثل في “الإمام الأعظم” أو الخليفة الذي يجسد وحدة الأمة، ويقود مسيرتها.
وحذفوا من الإسلام ضرورة التربية الإسلامية، والثقافة الإسلامية، التي يجب أن يتعاون عليها البيت والمدرسة، والجامع والجامعة، حتى تنشأ أجيال مسلمة العقل والعاطفة والسلوك.
وحذفوا من الإسلام كثيراً من الأحكام القطعية التي تتعلق بالتشريع المدني؛ كحرمة الربا والاحتكار والقمار، وبالتشريع الجنائي؛ مثل إقامة الحدود على السرقة والزنى والقذف وشرف الخمر.. وغيرها، فهل يسع مسلماً السكوت على حذف ما حذف من الإسلام؟ فيحل ما حرمه الله، ويحرم ما أحله الله، ويسقط ما فرضه الله؟
وهل يقبل مسلم رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وبالقرآن إماماً ومنهاجاً أن يسجن الإسلام في ركن ضيق، ويفسح المجال للفلسفات الوافدة، والتشريعات الوضعية، والنظم الأجنبية، والتقاليد الغربية، تفرض نفسها وحكمها على الحياة الإسلامية التي هي دخيلة عليها وغريبة عنها؟ لقد كان المسلمون –أو كثير منهم– في الأزمنة الماضية مولعين بالزيادة في الإسلام، بإضافة طقوس وعبادات وأذكار إليه، وهي ليست منه، ولكن العلماء الراسخين الملتزمين بالكتاب والسُّنة، ردوها على أصحابها، الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، متمسكين بالحديث النبوي الصحيح: “من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد”، أما مسلمو العصر الحديث فهم مولعون بالحذف من الإسلام –كما رأينا– فهم يريدونه عقيدة بلا شريعة، أو إيماناً بلا عمل، أو عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقاً بلا جهاد، أو أزواجاً بلا طلاق، أو دعوة بلا دولة، أو حقاً بلا قوة، أو مصحفاً بلا سيف، لهذا قام حسن البنا من أول يوم يجاهد في استرداد ما انتقص من أطراف الإسلام، وينادي بشموله، حتى يستوعب كل شؤون الحياة؛ روحية ومادية، فردية واجتماعية، اقتصادية وسياسية، أخلاقية وثقافية، محلية ودولية.
علمت دعوة الإخوان الناس أن الإسلام ذو شعب خمس:
1- شعبة تتجه إلى النفس؛ فتصلحها بالعقيدة والعبادة والأخلاق.
2- شعبة تتجه إلى المجتمع؛ فتصلحه بالتنمية والعدالة والتكافل الشامل.
3- شعبة تتجه إلى الدولة؛ فتصلحها بالشورى والعدل والنصيحة.
4- شعبة تتجه إلى الأمة الكبرى؛ فتصلحها بالوحدة والتلاحم.
5- شعبة تتجه إلى الكون؛ فتصلحه بالعمارة والقيم بحق الاستخلاف في الأرض.
والحق أن تاريخ الفكر الإسلامي خلال عصوره المختلفة لم يعرف أحد من رجاله، من أي طائفة كانت، من المتكلمين أو الفقهاء أو الأثريين أو المتصوفة، أو حتى الفلاسفة، نادى بفصل العقيدة عن الشريعة، أو الدين عن الدولة، أو الرسالة عن الحكم، وأول من نادى بذلك هو أحد أبناء العصر الشيخ علي عبدالرازق، في كتيبه الشهير “الإسلام وأصول الحكم،” الذي رحب به المبشرون والمستشرقون وعبيد الفكر الغربي.
وقد أحدث الكتاب ضجة في الأمة، وبخاصة أن مؤلفه أزهري، وانبرى الكثيرون للرد عليه، منهم الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد الخضر حسين، وكلاهما كان علاَّمة زمانه، كما اجتمعت هيئة كبار العلماء في الأزهر، وقررت سحب شهادة العالمية من المؤلف، وإخراجه من زمرة العلماء، وتحريم الوظائف المدنية والدينية عليه.
وقد رُوي عن المؤلف أنه رجع عما قاله في هذا الكتاب من أفكار تخالف إجماع المسلمين، وأن قوله بأن الإسلام رسالة روحية فحسب، كلمة أجراها الشيطان على لسانه، وقد نقل ذلك د. محمد عمارة في بعض كتبه.
حسن البنا والسياسة
لقد لقي حسن البنا العنت والكنود والأذى ما يعلم الله به، من أجل أن يفهم الناس أن الإسلام يهتم بسياسة المجتمع والأمة والدولة، كما يهتم بالعبادة، وأنه لا يجوز للمسلم أن يشغل بصلاته وصيامه فقط، ولا يهمه أمر أمته في مشارق الأرض ومغاربها، فالمؤمنون إخوة، والمسلمون أمة واحدة، وأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم، وحاول خصوم الإخوان أن يشوّشوا عليهم بقولهم: خلطوا الدين بالسياسة، وأطلق بعض الماكرين من خصوم الفكرة الإسلامية على الإسلام الشامل، الذي لم يعرف المسلمون غيره اسم “الإسلام السياسي”، كأن هناك إسلاميات متعددة؛ فهناك الإسلام الروحي والكهنوتي، وهناك الإسلام الأخلاقي، وهناك الإسلام الاجتماعي، وهناك الإسلام السياسي، والإسلام –كما شرعه الله، وكما بلغه رسوله– لا بد أن يكون سياسياً؛ لأن شريعته شريعة شاملة، والفقه الإسلامي تناول الحياة كلها من أدب قضاء الحاجة إلى بناء الدولة واختيار الخليفة.
ولقد قال حسن البنا مستنكراً: إذا كان الإسلام شيئاً غير السياسة، وغير الاجتماع، وغير الاقتصاد وغير الثقافة فما هو إذاً؟ أهو هذه الركعات الخالية من القالب الحاضر؟ أم هو هذه الألفاظ التي هي –كما تقول رابعة العدوية– استغفار يحتاج إلى استغفار؟ ألهذا نزل القرآن نظاماً محكماً مفصلاً؛ (تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89).
نظرة في وضع مصر عند ظهور الإخوان
لقد نشأت دعوة الإخوان بعد سقوط الخلافة بأربع سنوات أو خمس، وبعد ظهور كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، وبعد افتتان كثير من المثقفين بالحضارة الغربية، ومذاهبها وفلسفاتها، وبعد إلحاح هؤلاء على تثبيت فكرة أن الدين شيء، والسياسة شيء آخر، وأن الغرب لم يتقدم إلا عندما فصل الدين عن الدولة، أو الدولة عن الدين، وأننا لن نخطو إلى الأمام إلا إذا نسجنا على منواله، ونهجنا نهجه، حذو القذة بالقذة، وكان سلوك كثير من الجماعات الدينية في مصر يكاد يؤكد هذه الفكرة الغربية عن محيط الثقافة الإسلامية، وكثيراً ما نصوا في لوائحهم وأنظمتهم الأساسية أنهم جماعات دينية، ولا صلة لها بالسياسة، وأسوأ من ذلك كله أن هذه الجماعات –على ما كان لها من فضل ومن جهد مشكور في النواحي الدينية– لم يكن بين بعضها وبعض من الوئام والتفاهم؛ ما يجعل منها جبهة واحدة متراصة في مقاومة النزعات التغريبية والعلمانية الغازية.
وكان بين هذه الجماعات كلها عيب مشترك، هو اهتمام كل واحدة منها بناحية معينة من رسالة الإسلام، والتركيز عليها، وإهمال النواحي الأخرى، أو إسقاطها من الحساب، وربما عابت الذين يشتغلون بها ويوجهون عنايتهم إليها.
كانت جل هذه الجماعات الدينية –برغم نياتها الطيبة، وجهودها المشكورة– مع الإسلام أشبه بالعميان في القصة الهندية الشهيرة الذين صادفوا فيلاً، فأمسك كل واحد منهم بجزء منه ظنه هو الفيل، فلما سئلوا عن وصف الفيل قال أحدهم: إنه عظم مدبب أملس؛ لأنه لم يمسك إلا بنابه، وقال الثاني: بل هو جسم ضخم مفرطح؛ لأنه قد أمسك ببطنه، وقال ثالث: بل هو عمود أسطواني قائم؛ لأنه كان قد أمسك برجله، وقال رابع قولاً آخر؛ لأنه أمسك بذيله، وقال خامس غير ما قاله الأربعة؛ لأنه أمسك بخرطومه، وكل واحد من هؤلاء لم يصف الفيل، وإن قال حقاً في نفسه، لأنه وصف ما عرفه منه فحسب، ولو عرف الفيل كله كما خلقه الله، وكما يعرفه أهل البصر لغيّر رأيه، وعدّل قوله ووصفه، وكذلك كان هؤلاء، ظن بعضهم أن الإسلام في العقيدة وحدها.. وآخر في العبادة أولاً.. وثالث في الحشمة والعفاف قبل كل شيء.. ورابع في طهارة القلب.. وكل واحد من هذه الأمور صحيح، ولكنه ليس كل الإسلام، إنما هو جانب واحد منه ولا شرعاً ولا عقلاً من أن تهتم جماعة من الجماعات الإسلامية بجانب واحد من الإسلام، تتخصص فيه، وتركز عليه نشاطها وجهودها ويكون الاختلاف بين بعضها وبعض، اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، إنما الممنوع أن تنكر النظرة الشاملة للإسلام، وأن تعتقد وتشيع أن الجانب الذي تعنى به هو الإسلام وحده، وأن تنكر على الآخرين جهودهم في الميادين الأخرى، وألا تتعاون معهم في القضايا الكبرى.
مواقف الأحزاب السياسية
وإلى جوار هذه الجماعات والفرق الدينية، كانت هناك جماعات من نوع آخر، جماعات سياسية هي التي تسمى “الأحزاب”، كان يغلب على هذه الأحزاب –بصفة عامة– “الوطنية العلمانية”، فقد سبقت “الوطنية” ظهور “القومية”، وخصوصاً في مصر، وإن لم تخل هذه الأحزاب من رجال متدينين في خاصة أنفسهم وسلوكهم الشخصي، إذ لم تكن هذه الأحزاب عقائدية بالمعنى الذي عرف بعد ذلك في بلاد الأحزاب من الرجال الذين تثقفوا ثقافة أجنبية عن طريق البعثات إلى أوروبا، أو عن طريق المدارس الأجنبية والتبشيرية في أوطانهم نفسها، أو عن طريق المسموم الذي وضعه “دنلوب” وأمثاله من المبشرين وأعوان المستعمرين المسيطرين على أزمة التعليم والتوجيه، وكانت فكرة هؤلاء عن الإسلام صورة مطابقة من فكرة الأوروبيين عن المسيحية، فهو مجرد علاقة بين المرء وربه؛ أي هو دين “لاهوتي” محض.
مقاومة التجزئة المصطنعة لرسالة الإسلام
هذا هو الإطار الذي وضع فيه الإسلام، وهذا هو الفهم السائد له حين ظهور دعوة الإخوان المسلمين، وكان على مؤسس الدعوة –رحمه الله– أن يواجه هذا الفهم القاصر لرسالة الإسلام، وأن يبرز الجانب الثقافي والتشريعي والاجتماعي والسياسي والجهادي منه، وأن يقاوم هذه التجزئة المصطنعة لدعوته الشاملة، هذه التجزئة التي تريد أن تجعل الإسلام “نصرانية” أخرى تتخذ اسم الإسلام، وهو منها براء.
لهذا، أكد الإمام الشهيد هذا المعنى وكرره، ولا غرو أن كان الأصل الأول من الأصول العشرين في “رسالة التعاليم” التي وضعها حسن البنا ليوضح فيها أركان الدعوة، يقرر ذلك بجلاء ووضح فيقول: “الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء”، اهتمت دعوة الإخوان المسلمين بالتركيز على الجوانب الإسلامية التي أغفلت عمداً أو جهلاً من رسالة الإسلام، مثل: الدولة والأمة والجهاد والاقتصاد والثقافة والتربية والفكر والقانون.. وما إلى ذلك.
لماذا تبنى الإمام فكرة الشمول؟
ولم يكن للإمام البنا وجماعته خيار في تبني هذا الشمول لمعنى الإسلام لأسباب ثلاثة:
الأول: أن الإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانباً من الحياة دون آخر، فهو –بطبيعته– شامل لكل مناحي الحياة؛ مادية وروحية، فردية واجتماعية، حتى إن أطول آية في كتاب الله أنزلت في شأن من شؤون الدنيا هو كتابة “الديون”: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة: 282)، والقرآن الذي يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (البقرة: 183)، هو نفسه الذي يقول في السورة نفسها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (البقرة: 178)، وهو الذي يقول فيها: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 180)، ويقول في السورة ذاتها: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (البقرة: 216)، عبر القرآن عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة “كتب عليكم”، فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمنين، أي فرضه عليهم.
وكلها تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون، ويتقربون بها إلى الله، فلا يتصور من مسلم قبول فرضية الصيام، ورفض فرضية القصاص أو الوصية أو القتال.
الثاني: أن الإسلام نفسه يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه وأخذ بعضها دون بعض.
وقد اشتد القرآن في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل، فقال تعالى في خطابهم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: 85)، ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في الإسلام بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية مثل تحريم يوم السبت، أبى الرسول عليهم ذلك إلا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة.
وفي ذلك نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة 208).
وخاطب الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49).
فهنا يحذر الله رسوله من غير المؤمنين أن يصرفوه عن بعض أحكام الإسلام، وهو خطاب لكل من يقوم بأمر الأمة من بعده.
والحقيقة أن تعاليم الإسلام وأحكامه في العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات والمعاملات لا تؤتي أكلها إلا إذا أُخذت متكاملة، فإن بعضها لازم لبعض، وهي أشبه بوصفة كاملة.
الثالث: أن الحياة نفسها وحدة لا تنقسم، وكل لا يتجزأ.
ولا يمكن أن تصلح الحياة إذا تولى الإسلام جزءاً منها كالمساجد، والزوايا يحكمها ويوجهها، وتركت جوانب الحياة الأخرى لمذاهب وضعية، وأفكار بشرية، وفلسفات أرضية، توجهها وتقودها.
لا يمكن أن يكون للإسلام المسجد وحده، ويكون للعلمانية المدرسة والجامعة والمحكمة والتلفاز والإذاعة والصحافة والكتاب والمسرح والسينما والسوق والشارع والبرلمان والوزارة والجيش والشرطة، وبعبارة أخرى: الحياة كلها! كما لا يمكن أن يصلح الإنسان إذا كان توجيه الجانب الروحي له من اختصاص جهة كالدين، والجانب المادي العقلي له من اختصاص جهة أخرى كالدولة اللادينية.
فالواقع أن لا مثنوية في الإنسان ولا في الحياة، فليس فيه ولا فيها انقسام ولا انفصال.
إنه هو الإنسان بروحه ومادته، بعقله ووجدانه وبدنه، فلا فصل ولا تفريق، كما يؤيد ذلك العلم الحديث نفسه، وكذلك الحياة.
إن الإنسان لا ينقسم، والحياة أيضاً لا تنقسم، ولكن عقلنا العاجز المغرم بالتحليل والدرس لن يتمكن من القيام بهذا التحليل والدرس إذا واجه الحياة ككل قائم بذاته، فهو مضطر إلى أن يقسم الحياة إلى أوجه، وإلى ألوان، وإلى أنواع.
إن المسيحية التي يقول إنجيلها: “دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، حين وجدت الفرصة والقوة لم يسعها أن تدع شيئاً لقيصر، ولم تستطع إلا أن تسود، وتوجه الحياة كلها الوجهة التي تؤمن بها، مثل كل الأيديولوجيات الدينية والعلمانية قديماً وحديثاً، وكان البابوات هم الذين يتوجون القيصر ويراقبونه ويوجهونه ويلزمونه بما يريدون وما لا يريدون، فإذا كان هذا شأن المسيحية، فكيف بالإسلام الذي يأبى أن يقسم الإنسان بين مادة وروح منفصلتين، أو يقسم الحياة بين الله وقيصر؟! وإنما يجعل قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد.
(أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) (الأنعام: 114).
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).
شمول الحركة بعد شمول الفكرة
لم يقف الإخوان بالشمول الإسلامي عند حدود النظر والفكرة، بل وصلوا بهذا الشمول إلى مستوى العمل والحركة.
ورأينا الأستاذ البنا يعلن في “رسالة المؤتمر الخامس” أن حركة الإخوان تضم كل المعاني الإصلاحية، وكل النواحي الإيجابية التي تفتقر إليها الأمة، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر، واجتمع في رحابها ما تفرق لدى جماعات شتى، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك: إن الإخوان المسلمين..
1- دعوة سلفية: لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسُنة رسوله.
2- وطريقة سُنية: لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسُّنة المطهرة في كل شيء وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
3- وحقيقة صوفية: لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والارتباط على الخير.
4- وهيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل، وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد.
5- وجماعة رياضية: لأنهم يعنون بجسومهم، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن لبدنك عليك حقاً”، وأن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدَّى كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي، فالصلاة والصوم والحج والزكاة لا بد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزق، ولأنهم تبعاً لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيراً من الأندية المتخصصة بالرياضية البدنية وحدها.
6- ورابطة علمية ثقافية: لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؛ ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف، ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح.
7- وشركة اقتصادية: لأن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه، وهو الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: “نعم المال الصالح للرجل الصالح”، ويقول: “من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له”، “إن الله يحب المؤمن المحترف”.
8- وفكرة اجتماعية: لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها.
وهكذا نرى أن شمول معنى الإسلام قد أكسب فكرتنا كل مناحي الإصلاح، ووجَّه نشاط الإخوان إلى كل هذه النواحي، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعاً، ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعاً، ومن هنا كان كثير من مظاهر أعمال الإخوان يبدو أمام الناس متناقضاً وما هو بمتناقض.
فقد يرى الناس الأخ المسلم في المحراب خاشعاً متبتلاً يبكي ويتذلل، وبعد قليل يكون هو بعينه واعظاً مدرساً يقرع الآذان بزواجر الوعظ، وبعد قليل تراه نفسه رياضياً أنيقاً يرمي بالكرة أو يدرب على العدو أو يمارس السباحة، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص.. هذه مظاهر قد يراها الناس متنافرة لا يلتئم بعضها ببعض، ولو علموا أنها جميعاً يجمعها الإسلام، ويأمر بها الإسلام، ويحض عليها الإسلام، لتحققوا فيها مظاهر الالتئام، ومعاني الانسجام، ومع هذا الشمول فقد اجتنب الإخوان كل ما يؤخذ على هذه النواحي من مأخذ، ومواطن النقد والتقصير.