ظاهرة مخيفة تنتشر بين شباب المسلمين، بدأت مع المد الشيوعي في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي على استحياء لتعلو وتخفت في موجات فكرية واردة لتصل ذروتها بعد انتشار الفضائيات، ثم وسائل التواصل الاجتماعي التي أدت بدورها لسهولة التبادل الفكري بين الشباب بعضهم بعضاً داخلياً وخارجياً؛ ألا وهي ظاهرة الإلحاد، ولصعوبة فصل أي ظاهرة اجتماعية عما حولها من ظروف:
– «سياسية»؛ بانتشار ظاهرة الاستبداد في بعض بلادنا العربية والتضييق الحاد على فكرة الحرية الشمولية؛ فكراً وممارسة، بدءاً من الاستبداد الأسري، وانتهاءً بالاستبداد السياسي، وما يتبعه من حالة رفض مطلق لكل الثوابت الأخلاقية والعقيدية والسلوكية؛ تعبيراً عن عدم القدرة على ممارسة الحرية الكاملة.
– «اجتماعية»؛ وتشمل التربية الأسرية ونوعية الخطاب الديني والمناهج التعليمية وإشكالية ازدواجية التعليم في بعض الأقطار الإسلامية بين التعليم العام والتعليم الديني.
– «اقتصادية»؛ باتساع دائرة الفقر وما يترتب عليه من إحباط وفوضى فكرية على كافة الظواهر الاجتماعية الأخرى.
فقد نبتت ظاهرة الإلحاد، إذن، من تشابك تلك الظروف مجتمعة، وإن كانت بنسب متفاوتة، وبما أننا لن نستطيع في مقال واحد أن نحيط بكافة تلك الأسباب، فسوف نتناول أحد عواملها تفصيلاً؛ وهو عامل الاستبداد وعلاقته بترسيخ مفاهيم الإلحاد والهروب من القيم والثوابت التاريخية للمجتمعات المسلمة.
الاستبداد الأسري ودوره في توسيع دائرة الإلحاد
وبما أن التربية الأسرية المبكرة هي المهيمن الأول في التكوين الأولي لشخصية الإنسان بفكره وهويته وميوله وثقافته وتشكيل مفاهيمه الأساسية، فقد وجب التوقف عند دور الأسرة في تنامي ظاهرة الإلحاد وانتشارها، والأسرة هي المحضن والمؤسس والممهد لأرض خصبة وليدة تتلقى كل ما يصب فيها من قيم عبر تعاليم الوالدين وسلوكياتهما مع الأبناء، والعملية التربوية تتكون من جناحين؛ التربية بالتوجيه المباشر والتلقين، والتربية بالقدوة والسلوك، ولا يقل أحدهما عن الآخر في الأهمية، كما أن لها ركنين؛ وهما الأبوان، لا يغني أحدهما عن وجود الآخر، إلا في حالات استثنائية لا تمثل قاعدة.
إن الأسرة التي تسير بمربٍّ متسلط مستبد في قوله وفعله لا يخرج منها أفراد أسوياء، وإنما تصدر للمجتمع مشكلات مستقبلية مصابة بالاستبداد والتمرد والحنق، وربما التبعية والجمود وفقدان الهوية والوجهة، والأب المستبد ينفرد برأيه في اختيار كل ما يخص الأبناء بدءاً من ملابسهم، مروراً بنوعية طعامهم وأصدقائهم، وانتهاءً بنوعية تعليمهم، يحقق فيهم أحلامه هو دون أحلامهم، ورغباته دون رغباتهم، لا يسمح بمناقشة قضايا تخصهم، ولا يسمع لهم رأياً، وإنما هي قرارات واجبة التنفيذ تطمس معالم شخصياتهم وتعجزهم عن كيفية اتخاذ قرار في مستقبل أيامهم، وتتضاعف الإشكالية سوءاً إذا كان الأب مشغولاً بتوفير لقمة العيش، ويحسب أن التربية هي إنفاق مصاحب العصا للعقاب المجرد لعدم تنفيذ الأوامر، ليصبح البيت المورد الأكبر لنفوس معقدة بلا رسالة سامية، أو هوية واضحة، وبما أن الطفل يلاحظ الفعل أكثر مما يتأثر بالتوجيه اللفظي، فيخرج مستبد صغير يمارس استبداده على إخوانه الأصغر وزملائه ومجتمعه فيما بعد.
ظاهرة النسوية وصلتها بالإلحاد
وهناك ظاهرة استبداد أخرى مستحدثة بالبيت المسلم تؤثر بشكل مرعب على الناتج الأسري؛ وهي ظاهرة «الفيمينست»، وهي كلمة إنجليزية تعني «النسوية»، وتهدف تلك الدعوة في حقيقتها ليس حقوق المرأة كما هو معلن، وإنما تجريد المرأة من مهمتها الفطرية ومسؤوليتها المقدسة في تكوين بيت مسلم متوازن يرفع راية التوحيد، وهي تساوي في خطورتها تخلي الرجل عن كافة مسؤولياته نحو أسرته وحصرها في جلب المال، فتخرج الأم «المستبدة» متذرعة بممارسة حقوقها في العمل والكسب، أو بحاجة البيت إلى راتبها إعانة للزوج في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، ويغادر الأبوان البيت تاركين خلفهما مسألة التربية للآخرين، مثل وسائل الاتصال والإعلام التي ساهمت في تشكيل مفاهيم مغالطة لتاريخ الأمة بشكل كبير.
وأما المجتمع المكون من تلك الأسر «المشغولة»، فلم يعد معنياً بمسألة التربية العقدية أو السلوكية المستمدة من الدين، فاكتفت المدرسة بعملية تلقين مجردة بمناهج مدرسية لا علاقة لناتجها بحاجة المجتمع والأمة، وبلا تفرقة بين مناهج الأولاد والبنات وطبيعة كل منهما.
وأما وسائل الإعلام، فقد تحولت لصراع فيما بينها لاستقطاب أكبر عدد من المشاهدين ببرامج موجهة تشبع رغبات النفس والجسد دون الروح والعقل، يخرج الأبناء غير الأسوياء ناقمين على كافة الروابط الأسرية والمجتمعية ليجسدوا تلك النقمة بحل العقدة الأولى وهي الإيمان بالله دون فهم أو وعي أو إدراك أو دراسة أو حتى اقتناع.
الاستبداد السياسي وتزييف مفاهيم التوحيد
ويأتي في المرحلة الثانية الاستبداد السياسي الذي أغلق أبواب المستقبل في وجوه الشباب، فقد جففت بعض الأنظمة كل أمل في تحقيق قيم العدالة والمساواة أو المشاركة في مواقع اتخاذ القرار وفتح مجالات الإبداع فيها، ولذلك فقد ارتبطت مصالح المستبدين بغياب وتشويه عقيدة التوحيد الخالص، تلك العقيدة التي تدفع صاحبها لبذل نفسه في سبيل تحرير مجتمعه ومقاومة المستبد، وهو حريص كذلك على تغييب شعبه عن ثقافته وتشويه مفاهيمها فلا تنتبه الشعوب وتنتفض بحكم ثقافتها ومرجعيتها، والترويج لمفاهيم الصبر على البلاء، والصبر على الفقر، والصبر على الظلم في مقابل دخول الجنة وإنشاء قنوات تدعم تلك الفكرة بشكل مبالغ فيه وتعيين عدد كبير ممن يسمونهم علماء لترسيخ تلك المفاهيم لدى البسطاء.
وقد نتج عن وجود الحاكم المستبد طابور طويل من المستبدين المؤثرين في تشكيل شخصية الشباب، الأب المستبد الذي لا يصب غضبه على أسرته كما مر بنا، المعلم المستبد الذي لا يهتم بمشكلة نفسية أو تكوينية لنفوس طلابه خاصة في مراحل التعليم الأولى، الموظف المستبد الذي يعطل مصالح الناس، المدير المستبد، والوزير المستبد، فيصير المجتمع شبكة فاسدة غير صالحة لحياة أو إصلاح، لتكون النتيجة غضباً مكبوتاً لا يستطيع التعبير عن ذاته إلا بالهروب من الثوابت المتوارثة.
وقد يتساءل البعض: وما علاقة الاستبداد بإلحاد الشباب وتركه للدين ومحاربته للأخلاق ونبذه لكل مظاهر الصلاح.
والحقيقة أن كل المعطيات التي ذكرناها ما هي إلا موطن ثري للفرار من الهوية لأي هوية أخرى قد تعبر عن احترامها للذات الإنسانية من وجهة نظره، غير هذا الضعف والهوان والانكسار والانبطاح والخنوع والظلم.
إن هناك من يدفع الشباب لليأس من مستقبله، فيلجأ إما للعنف، أو للمخدرات، أو الهجرة، أو إعلان الإلحاد رغبة منه في التمرد على قيم وثوابت هذا المجتمع الذي يراه شبه ميت، ولذلك فهي صرخة تحذير بأن الشباب الذي اكتفى اليوم بإعلان تغيير هويته أو الانسلاخ من ثقافته لإعلان تمرده، هو على استعداد أن يترجم الفكر المجرد لفعل خطير.
عقل إستراتيجي أممي لتصحيح المفاهيم والثوابت
وحين نتحدث عن حل لتلك الظاهرة، فإننا نقصد حلاً جذرياً يشمل كافة الأسباب الواضحة والاحتمالية، حلاً لا يستطيعه فرد واحد ولا فصيل واحد ولا حتى دولة واحدة، وإنما يجب أن يتضافر عليه كل علماء الأمة من كافة التخصصات الإنسانية المعروفة على هيئة مؤسسة كبرى تحوي هؤلاء العلماء مجتمعين يكونوا بمثابة عقل إستراتيجي للأمة، عقل يحدد الإشكاليات ويضع لها حلولاً أممية وليست إقليمية، فنحن أمة لا تنهض قُطرياً، ولا يصلحها إلا أن تنهض جملة واحدة يكمل أحدها الآخر.
وتلك دعوة من خلال هذا المقال لمن يهمه الأمر بتكوين مؤتمر دائم وعام ومفتوح لإعادة تصحيح المفاهيم التي زيفت لعشرات السنوات وربما لأكثر من مائتي سنة قبل سقوط دولة الخلافة العثمانية بقرن كامل.
وأما ما يخص ظاهرة الإلحاد، فلها الأولوية بإيجاد حلول لعودة المرأة لبيتها والدعوة لتعويضها إذا كانت امرأة معيلة، أو تعويض زوجها ليكفي بيته دون الحاجة لعمل المرأة خاصة في فترات التربية المبكرة، كذلك الدعوة لتصحيح منهجية التعليم وعودة نظام الكتاتيب للاهتمام بالقرآن والسُّنة وعلومهما، على أن تتولى الأمة كلها مسؤولية تشكيلها بدءاً من الأنظمة التي يمكن أن تهتم بتلك المسألة وتقوم ببناء مؤسسة جديدة، أو تطوير المؤسسات الحالية لتشمل عقولاً في تخصصات مختلفة غير مكتفية بعلماء الفقه والشريعة لعلها تكون خطوة أولى لعملية تصحيح مسارات كبرى.