لقد رأت هذه الأمة في تاريخها الطويل، من النصر والهزيمة، والأيام البيض والأيام السود، ما تراه كل أمة، ولكن الذي تواجهه أمة محمد الآن أشد من كل ما واجهت في سالف الأيام، إن أعداءها يكيدون لها الآن كيداً «مدروساً»، يُعدون لحربها خططاً تعمل لها عقول كبيرة جداً، وتُنْفق عليها أموال كثيرة جداً، وتسندها جماعات، بل دول، قوية جداً، ولا نيأس مع ذلك كلِّه من الظفر، لأن الله وضع لنا في أمور الدنيا وأمور الآخرة سنناً لا تختلف، هي مثل السنن التي سنَّها الله للوجود، أعني القوانين التي نسميها القوانين الطبيعية، لا يؤثر فيها اختلاف المكان ولا الزمان: قانون الجاذبية مثلاً الذي وضعه الله يوم خلق العالم، واكتشفه نيوتن من قريب، يسري في البلاد التي تتلهب من الحرِّ عند خط الاستواء، وفي الجبال التي يُغطي هامها الثلج، عند القطبين، وتَنْفُذُ الآن كمال نفذت قبل قرون وستظل بعد قرون وقرون منها أن «العاقبة للتقوى»، وأن للباطل صولة، ولكن الظفر للحق.
ولما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتد العرب عن دينه، أو أرادوا هدم ركن من أركانه هو الزكاة، وحسب ناس أنها نهاية الإسلام، فما هي إلا أن قام رجل واحد يهزُّ راية القرآن، ويضرب بسيف محمد حتى عاد المرتدون إلى الدين، وعاد الإسلام أقوى مما كان.
ويوم وقفت لنا أوروبا كلها وكانت جيوش الصليبيين أولها في القسطنطينية وآخرها في وسط أوروبا، وتوالت الحملات، واشتد البلاء، وغدت لهم في الشام دول وإمارات، ولبثت القدس نفسها في أيديهم أكثر من تسعين سنة، ثم كتب الله النصر للحق.
ويوم سال سيل المغول من الشرق، كما جاء سيل الصليبيين من الغرب، وجرف الدول، وهدَّ العروش، وأخذ في طريقه أعظم مدن الأرض يومئذ؛ بغداد التي كان فيها مليونان من البشر في تلك الأيام، التي كانت عاصمة الدنيا، كل حسن فيها يحمل إليها، وأُلقيت كتبها في دجلة حتى اسود منه ماؤها عند الضفتين، وما ذاب في الحبر الذي كتبت به، ولكن ثمرات العقول ونتاج الأدمغة، وخلاصة الفكر البشري.
وما حاق بالمسلمين من قبل ومن بعد من نكبات وأرزاء، فما ضرّها ذلك كله، لأنها كانت تعرف كيف تمدُّ يدها إلى السلاح (والسلاح قريب منها)، فتوجهه إلى أعدائها، وتعرف كيف تشعل المصباح (والمصباح عندها)، فتبدِّدُ به الظلام من حولها، وما المصباح إلا هذا القرآن، وما السلاح إلا القلوب المؤمنة، والعقول المفكرة واليَدُ العاملة التي تعرف كيف تعدُّ القوة لحرب عدوِّها، مبتغية بذلك رضا ربها، لا نيل المكاسب من دنياها وآخر ما ابتليت به الاستعمار.
لقد فتحت عيني على الدنيا في أوائل هذا القرن الميلادي وما في ديار الإسلام بقعة لم يدخلها أو يَحُمْ حولها الاستعمار، إلا هذه الجزيرة التي عصمها الله أن تطأها نعال جندي أجنبي، أو ترفرف عليها رايته، ولقد كنت أظن وأنا صغير أن من أصعب الصعب طرد المستعمر من أرضنا، فسهَّل الله الصعب، وأدنى البعيد، وعادت البلاد إلى أهلها.
لم يأتنا الاستقلال عفواً بلا تعب، ولكن بذلنا له أرواحنا، وأرقنا دماءنا، وجاهدنا، وجالدنا، وعملنا كل ما استطلعنا.
وانجلت الحرب الكبرى، وإذا نحن نُبتلى بما هو شر مما كنا فيه، ابتلينا بشرار الخلق وأخسِّ الأمم؛ اليهود، لا الذين اتبعوا موسى وآمنوا به، بل الذين كفروا بموسى، وعيسى، كما يكفرون بمحمد، وبدلوا دينهم وكانوا شيعاً، يختلف طريقها ولكن تتحدُّ في عداوتنا غاياتها.
وكذلك يصنع الآخرون، إنهم إذ كان موقف فيه حرب الإسلام كانوا جميعاً علينا، كان بين أمريكا وروسيا ما صنع الحداد (والنجار، والذي يعمل الرشاشات والمدافع)، كانوا يختلفون على كل شيء، ولكن لما قامت هذه الدولة التي ولدت لغير أب شرعي، التي جاءت مسخاً مشوهاً، دولة «إسرائيل»، تسابقت الدولتان إلى الاعتراف بها، ومباركة ولادتها قبل أن تبلغ يوماً وليلة من عمرها، ابتلينا باليهود.
ولو أني بُليت بهاشمي خؤولته بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
__________________________________
المصدر: كتاب «قصتنا مع اليهود» للشيخ علي الطنطاوي.