هذا كتاب جليل القدر عظيم النفع، وهو من أجلّ كتب أهل السُّنة والجماعة في تقرير الإيمان، وأنه قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، ويعتقدون أن هذا الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد اهتم سلف هذه الأمة بمسألة الإيمان اهتماماً عظيماً؛ لأنها أول مسألة اختلف فيها أهل القبلة، ولم يكن قبلها نزاع في شيء من مسائل الأصول، وإنما كان الخلاف في مسائل الفروع والفقه.
وتزداد أهمية هذا الكتاب للإمام العالم الفقيه المحدث اللغوي أبي عبيد القاسم بن سلام لما له من الإمامة في علوم الشريعة، وأيضًا لعظم هذه المسألة وتمايز أهل السُّنة والجماعة فيها عن أهل البدع، وقد بين الإمام رحمه الله موضوع الكتاب بدقة حين سماه كتاب «الإيمان ومعالمه وسننه واستكماله ودرجاته»، وقد ذكر في صدره بيانًا لذلك ولطبيعة الكتاب من شرح واختصار، وفي هذا الملخص نذكر فيه مقالاته بحرفها مع بعض الحذف والتهذيب.
قال أبو عبيد: أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله وزيادته ونقصه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السُّنة من ذلك، وما الحجة على من فارقهم فيه، فإن هذا، رحمك الله، خطبٌ قد تكلّم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد كتبت إليك بما انتهى إليَّ علمه من ذلك مشروحاً مخلَّصاً وبالله التوفيق.
اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين: فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب وشهادة الألسنة وعمل الجوارح، وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليس من الإيمان.
وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسُّنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً وينفيان ما قالت الأخرى، والأصل الذي هو حجتنا في ذلك اتباع ما نطق به القرآن، فان الله تعالى ذكره علواً كبيراً، قال في محكم كتابه: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59)، وإنا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسول الله صلى الله عليه وأنزل به كتابه، فوجدناه قد جعل بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمناً، لا يلزمه اسم في الدين غيره.. فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم، زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة، بعد أن كانت إلى بيت المقدس.. ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم، في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه، فقال في الأمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) (الحج: 77)، وقال في النهي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً) (آل عمران: 130).
وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء، لا فرق بينها، لأنها جميعاً من عند الله وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمهم، والقبلة التي كانوا عليها، لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم، لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار.
ومن الإيمان قول الله عز وجل: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 143)، فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟ (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103) فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار وأعطوه ذلك بالألسنة.
وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان ذلك مزيلاً لما قبله، ناقضاً للإقرار والصلاة كما كان إيتاء الصلاة قبل ذلك ناقضاً لما تقدم من الإقرار، والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمه الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينها في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها، ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به، ويشملها جميعاً اسم الإيمان فيقال لأهله مؤمنون.. وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول، لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين، أوجبوا لهم الإيمان كله بكماله، كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: أن تؤمن بالله وكذا وكذا، وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية فأمر بعتقها وسماها مؤمنة، وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقاً كنزول القرآن.
وأما الحجة من السُّنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض، ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك.
ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال)، فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط، والذي يزعم أنه بالقول خاصة يجعله مؤمناً حقاً وإن لم يكن هناك عمل فهو معاند لكتاب الله والسُّنة.. أفلست تراه تبارك وتعالى، وقد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخر؟ فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟!
فالأمر الذي عليه السُّنة عندما ما نص عليه علماؤنا؟ مما اقتصصنا في كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها و أعلاها الشهادة باللسان: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا، فإذا نطق بها القائل، وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى، ازداد به إيماناً.
باب الاستثناء في الإيمان
والشاهد: (على ما نظن) أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: «أنا مؤمن»، فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك، وقد رأيت يحيى ين سعيد ينكره ويطعن في إسناده لأن أصحاب عبد الله على خلافه.
باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه
قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جامع ابن شداد عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ بن جبل لرجل: ” اجلس بنا نؤمن ساعة يعني نذكر الله وبهذا القول كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس، يرون أعمال البر جميعا من الازدياد في الإسلام، لأنها كلها عندهم منه. وحجتهم في ذلك ما وصف الله به المؤمنين في خمسة مواضع من كتابه منه قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173)، وقوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً) (المدثر: 31)، وقوله: (لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ) (الفتح: 4)، وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول، فاتبع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية.
وأما الذين رأوا الإيمان قولاً ولا عمل فإنهم ذهبوا في هذه الآيات إلى أربعة أوجه:
أحدها: أن قالوا، أصل الإيمان الإقرار بجمل الفرائض مثل الصلاة والزكاة وغيرها والزيادة بعد هذه الجمل، وهو أن تؤمنوا بأن هذه الصلاة المفروضة هي خمس، وأن الظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاث، وعلى هذا رأوا سائر الفرائض.
والوجه الثاني: أن قالوا: أصل الإيمان الإقرار بما جاء من عند الله، والزيادة تمكن من ذلك الإقرار.
والوجه الثالث: أن قالوا: الزيادة في الإيمان الازدياد من اليقين.
والوجه الرابع: أن قالوا: إن الإيمان لا يزداد أبداً، ولكن الناس يزدادون منه.
وكل هذه الأقوال لم أجد لها مصدقاً في تفسير الفقهاء ولا في كلام العرب.