أقبلت أفضل أيام الدنيا وهبت معها رياح الأنس وتحركت القلوب شوقاً وطمعاً، فالناس بين فريقين فريق يعاين مناسك الحج ويستمتع بها، وفريق لم يكتب الله له حج هذا العام فينام ويصحو والشوق لا يفارقه، وكلا الفريقين يتشاركان في حالة العبودية، وكل يؤجر على قدر انكساره وخضوعه واستسلامه لأمر الله.
فالحج أمنية لكل مسلم تتشوق نفسه إليه مهما تباعدت به الديار، وتظل أطياف هذه الزيارة تداعب خياله ويملأه الحنين إلى بيت الله الحرام.
ولقد حرص الإسلام على تربية أخلاق الأمة، وتهذيب سلوك أفرادها، وربط المسلم بربه واستسلامه له من خلال فرائض شرعها على المؤمنين، فغاية الفرائض التي فرضها الله على عباده تغيير حياة العبد المسلم وتعديل سلوكه، ليكون فرداً مؤمنا نافعاً لأهله ولإسلامه وجديراً بالعبودية لله عز وجل وبالاستخلاف في الأرض.
والحج أحد فروض الإسلام الخمسة التي شرعها الله سبحانه وتعالى على المؤمنين به، وهي فريضة أوجبها الله تعالى على المستطيع من عباده المؤمنين لتحقيق منهج أخلاقي وسلوكي يستغرق كل حياتهم، فكل مناسك الحج تتعدى غايتها زمن أداء المناسك إلى صناعة نموذج من العبد الذي يحبه الله، فهو ليس مجرد رحلة أو نزهة أو مجرد تأدية مناسك وشعائر معينة، بل هو منهج متكامل لتقويم سلوك الحاج، ولتحقيق خيرية حياته وصلاح نفسه وقلبه وعقله، وهذه هي الفلسفة العميقة لفريضة الحج، التي لا تكتمل إلا بالاستمرار على منهج الإسلام في الحياة.
فالحج ينقل العبد من هذه الحياة التي يتداخل فيها الشيطان مع النفس بشكل كبير فيجداً فرصة لإبعاد العبد عن حالة العبودية وإضعاف إيمانه إلى حالة إيمانية روحانية تربط قلب العبد بربه على مدار يومه، فيدمن العبد الطاعة ويتلذذ بالنصب، وتُغلق الأبواب أمام الشيطان وأهواء النفوس لفترة كبيرة؛ حتى يتعود العبد على الطاعة ويتعلم الصبر عليها ويبتعد عن المعاصي حتى يستوحش منها، فإذا عاد إلى حياته بعد الحج ما هان عليه أن يعود لما كان قبله، بل تشبث بهذا الشعور الجارف الذي سيطر عليه فترة الحج لأكبر فترة ممكنة، وهذا هو المنوط بالعبد أن يصفي نفسه قبل عودته من حجه، وأن ينوي التوبة عن كل ما يغضب الله تعالى ليكون حجه مبروراً وليغفر ذنبه فيكون عائداً من هذه الرحلة كمن ولدته أمه، فالحج نوع من أنواع الجهاد الذي يتحقق من وراءه أعظم الثمار وأحلاها، وقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج».
مشروع عالمي سنوي يحارب الاستعلاء والتمييز
الحج مؤتمر سنوي حاشد، وإن شئت فقل مشروع عالمي يجمع البشر من كل حدب وصوب في مكان واحد، الأبيض والأسود، الغني والفقير، القادمين من دول العالم الأول والقادمين من العوالم الأدنى، أعراق ومذاهب شتى، لغات ولهجات بالمئات، جميعهم يحكمهم قانون الله وشريعته ولا صوت يعلو فوق صوت الأمر الإلهي، والمطلوب من الجميع أن يهتفوا بشعار واحد «لبيك.. لبيك.. لبيك اللهم لبيك».
لا يسمح في هذا الحشد العظيم باستعلاء أحد على أحد ولا تمايز رجل على آخر، فهنا الميزان واحد «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فكلهم أمام خالقهم متساوون، والفائز فيهم هو الذي ينظر إلى جميع الحجاج بعين واحدة، وهو درس يتعلم من خلاله الحاج العدل والمساواة ونبذ التمييز بين بني البشر بلون جلد أو بمقدار مال في جيب، ويتعلم الميزان الذي يزن به الناس بعد ذلك وهو ميزان التقوى والعمل الصالح.
ثياب الإحرام رمز للوحدة وإعلان للتجرد وزهد في الدنيا
يشترط أن يلبس الحجاج ثياباً بيضاء غير مخيطة، وهي تعمق الشعور بالوحدة والإخاء وتذوب الفوارق التي يصنعها المظهر الخارجي، وهي في الوقت نفسه تذكر العبد بحقيقة الدنيا وقيمتها عند الله تعالى، فلو كان للباس قيمة فليس هناك أفضل من هذا الموضع لإظهاره، ففيه درس بليغ أن قطعتين من القماش البيض يؤديان غرض الستر الشرعي بغير تكبر ولا تعالٍ، وهي دعوة للتخفف من زينة الحياة الدنيا والتقلل منها، وإظهار شخصية المسلم على حقيقتها بعيداً عن حسابات اللباس أو المال أو اللقب.
وهي إعلان للتجرد التام بين يدي الله، ولسان حال العبد أن لبيك وسعديك، وقفت بين يديك وقد خلعت ثياب الكبر والزينة والغرور، وخلعت معها شهوات نفسي وهواها وأقبلت عليك وحدك، فلا أرى سواك ولا أذكر إلاك ولا أفكر فيما دونك ولا أمتثل إلا أمرك.
الطواف حول الكعبة طواف للقلب والقالب حول قدسية الله
الكعبة هي الرمز القدسي الذي اختاره الله ليكون مركزاً لتعلق القلوب به واتجاه الوجوه إليه، فحين يطوف العبد بالكعبة، فإنه يعلن تبعيته وتعظيمه للخالق العظيم، وهو في الوقت نفسه يتماشى مع سنن الله وقوانينه، ففي قانون المادة فإن الأصغر يطوف حول الأكبر، فالإلكترون يدور حول النواة، والقمر يدور حول الأرض، والأرض تدور حول الشمس، والشمس تدور حول المجرة، وهكذا إلى حال لا نعلمه ويعلمه خالقه.
وفي الطواف إشارة أخرى إلى حقيقة توجيه الأعمال وصرفها إلى واحد لا شريك الله، فهو تعبير عن الانقياد والاستسلام الطوعي لأوامره ونواهيه، وإعلان للمحبة والقرب والانصياع، والصدع العملي بـ«إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً».
الحجر الأسود رمز للاتباع وعقد للبيعة مع الله
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل الحجر الأسود وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم» (رواه الترمذي وحسنه)، وفي رواية: «الحجر الأسود من الجنة» (رواه النسائي)، وفي رواية: «نزل الحجر الأسود من الجنة كان أشد بياضًا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك» (رواه أحمد)، وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحجر الأسود نزل به ملك من السماء»، كذلك أخرج كل من الترمذي وأحمد والحاكم وابن حيان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة»، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبّله، فقال: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك» (رواه البخاري)، وروى ابن خزيمة في صحيحه، وأحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق».