أحدث انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وانفجار ثورة التكنولوجيا الاتصالية الحديثة تفاؤلاً جماً فيما بين أوساط المثقفين بشأن ما قد يمارسه ذلك التواصل الفعال والمنافذ المفتوحة للجميع، وما قد يؤديه ذلك من خدمات جليلة للعلوم والمعارف، حيث فتحت تلك الوسائل آفاقاً غير محدودة للجميع لتقديم إسهامات علمية ونشر المعرفة لأعداد لا محدودة من البشر، بعد أن ظل العلم لقرون حبيساً لأروقة الجامعات وجنبات المدارس وجدران المعامل.
ويمكن النظر إلى ذلك التفاؤل باعتباره الجانب المضيء الأبرز لوسائل التواصل الاجتماعي الذي يمكن إشهاره في وجه أي نقاش جاد بشأن الجوانب المظلمة العديدة والعميقة لوسائل التواصل الاجتماعي، فأي سهام يمكن تسديدها صوب تلك الوسائل بشأن إدمانها ومضيعتها للوقت ونشرها للأكاذيب ومساهمتها في رفع معدلات الاكتئاب، مردود عليه بأن تلك الوسائل ما هي إلا وعاء محايد يمكن استخدامه بشكل ضار أو الانتفاع بما يقدمه للمستخدمين من فرص متنوعة لاكتساب المعارف وهضم العلوم.
فهل فعلاً أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المعارف والعلوم؟
إن منصات التواصل تقوم في فلسفتها الأساسية على الترفيه عن طريق تحقيق التواصل بين البشر، هذا التواصل يتم عبر نقل الأخبار الشخصية ومشاركة الأحداث والمعلومات والبيانات الشيقة التي تثير انتباه الآخرين وتُسهم في تنمية مشاعر الاستمتاع والتسامر فيما بين أعضاء الشبكة، ومن ثم فإن الهدف الرئيس الذي صُممت من أجله تلك المنصات ليس اكتساب العلوم والمعارف، فهي ليست الوجهة الصائبة التي يمكن الاستناد إليها في ذلك الشأن، إذ هي لم تستهدف ذلك من الأساس.
وقد أدى إدخال فكرة نشر العلوم والمعارف إلى تلك المنصات إلى تحويل العلم إلى وسيلة للترفيه والمتعة، ومن ثم البحث عن الغرائبيات والقشور والابتعاد عما يثير الملل أو الفتور، ومن ثم الابتعاد عن التعمق والجدية والتخصص، والمبالغة في التبسيط المُخل حتى ينجح المُتصدر لتلك المهمة في جذب أكبر عدد ممكن من المعجبين والمشاركين.
الوجبات السريعة
غزت فكرة «الفاست فود» أو الوجبات السريعة معظم المجالات في عالم اليوم، لكن الانتشار الأخطر كان دخولها عالم المعارف والعلوم، فأصبحت فكرة العلوم السريعة أو الثقافة المُختصرة سائدة على سائر مواقع التواصل الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى ما تتسم به تلك المواقع من تضييق المساحة المسموح بعرض الأفكار من خلالها إما بعدد محدود من الكلمات والأحرف مثل «تويتر» أو بنطاق زمني محدد مثل الفيديوهات القصيرة من «يوتيوب» (shorts)، أو «فيسبوك»، و«إنستجرام» (reels)، أو «تيك توك»، وكلها مساحات لا تزيد على 15 دقيقة؛ وبالتالي هي مصممة بالأساس ألا تسمح بعرض متعمق أو شامل لأي فرع من فروع العلوم.
وقد ألقى ذلك بظلاله بشكل عام على معدل التعلم والتثقيف لدى الأجيال الجديدة؛ إذ تراجعت فكرة القراءة المتأنية للكتب لمصلحة إدمان وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة مقاطع الفيديو، فتشير الإحصاءات الأمريكية، على سبيل المثال، إلى أن عدد المراهقين الذين يخصصون وقتاً يومياً للقراءة وصل إلى 20%، في مقابل 80% يخصصون وقتاً يومياً لوسائل التواصل الاجتماعي، بينما تشير دراسة فرنسية إلى أن الفرنسيين يخصصون 3 ساعات أسبوعياً للقراءة، في مقابل 3.5 ساعة يومياً لوسائل التواصل الاجتماعي.
تسطيح العلوم
تفيد دراسة نفسانية بشأن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على اكتساب المعارف، بأن الإنسان حين يعرف شيئاً جديداً يفرز دماغه هرمون الدوبامين المسؤول عن شعور السعادة، وهذا ما يجعل وسائل التواصل بمعارفها الكثيرة والمتنوعة الجهة الأكثر تفضيلاً للبشر من الكُتب، إذ إن روابط متنوعة ونوافذ متعددة تحوي كماً كبيراً من العلوم والمعارف على منصات التواصل أفضل وأسرع وأكثر تأثيراً على إفراز كميات كبيرة من الدوبامين مقارنة بكتاب واحد يحتاج إلى أيام لإتمام قراءته وتعلم شيء جديد منه.
وقد أدى ذلك إلى إدمان وسائل التواصل على حساب القراءة المتأنية للكتب، والهضم السريع للمهارات والمعلومات المتداولة على المنصات بديلاً عن مطالعة الكتب والإقبال على التعلم المتخصص الدقيق، وبذلك تم تسطيح المعرفة؛ إذ إن العلوم والمعارف التي يتم تحصيلها عبر المقالات القصيرة ومقاطع الفيديو السريعة لا يمكن أن تحوي قدراً من العلم كالذي تقدمه الكتب، ولا تسمح ببناء معارف راسخة، بل تُقدم قشوراً واهية وحقائق ملفقة ومعارف متشرذمة ومقتطعة من سياقها العلمي.
وتشير الدراسات إلى أن الإقبال الكبير على تلقي العلوم واكتساب المعرفة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتهج السرعة والتسطيح تؤدي إلى تغييب العقول وجعلها أكثر بلادة وتُعطل ملكة التفكير النقدي، إذ إن الكتب بطبيعتها تفرض على الإنسان القراءة البطيئة المتأنية التي تسهم في نقل المعلومات من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة طويلة المدى وتمنح الوقت الكافي للتفكر فيما نقرأ، بينما ما تفرضه مواقع التواصل من نمط سريع للثقافة تؤثر بدورها على تسريع عملية نقل المعلومة، ومن ثم عدم القدرة على التأمل فيها أو الاستفادة الحقيقية منها عبر التفكر والتدبر فيما تقدمه من أفكار وقيم.
هذا التسطيح المُمنهج بفعل وسائل التواصل الاجتماعي وتسريع عملية اكتساب العلوم والمعارف، يؤدي إلى نتائج كارثية على أدمغة البشر، وخصوصاً الأجيال الجديدة من الشباب والمراهقين، إذ ينخفض مُعدل التركيز بفعل الاعتياد الدائم على المقالات المُختصرة والمقاطع القصيرة، ومن ثم تقل قدرة هؤلاء الشباب والمراهقين -وصبرهم أيضاً- على مطالعة الكتب الطويلة والمراجع الدراسية ومن ثم انخفاض مستواهم العلمي.
هذا التسطيح الثقافي الذي تمارسه مواقع التواصل الاجتماعي لا فكاك منه إلا بإدراك أن العلم لا يمكن اكتسابه عبر تلك المنصات، ومن ثم البحث عن القنوات الصحيحة سواء عبر منصات التعلم الإلكتروني الموثوقة، أو قراءة الكتب والمجلات العلمية الرصينة، وتقليص الوقت المخصص لتلك المواقع لمصلحة القراءة العلمية المتخصصة في الكتب التي تتناول المجال المُراد الاطلاع عليه.