توجه منى أبو الفضل (ت 2008م) اهتمامها في دراستها المعنونة بـ«نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي: بين المقدمات والمقومات»(1) إلى المصدر الأول لمصادر التنظير الإسلامي، وهو القرآن الكريم، والقصد من هذا التوجيه، كما تذكر، هو «إرساء قواعد معرفية إسلامية على أسس مستوية وصحيحة -لمصادر التنظير الإسلامي- تجمع بين دواعي الاستقامة المنهجية ولوازم البحث التخصصي من حيث الاتساع والعمق والكفاءة والإحاطة وقابلية الاستخدام أو التوظيف والانتفاع في أكثر من مستوى ومجال»(2).
تسير الدراسة في تحقيق هذا المقصد الرئيس ناحية منحيين أساسيين، الأول: يتجه ناحية القرآن الكريم واكتشاف الأطر المعرفية اللازمة لبناء منهاجية للعلوم الاجتماعية، والثاني: تتوجه إلى الباحث المسلم الذي يتعرض للقرآن الكريم لبناء ذلك الأطر واكتشاف تلك القواعد اللازمة لهذه العملية المنهجية والمعرفية.
فيما يتعلق بالمحددات المنهاجية للتعامل مع المصدر المنشئ للتنظير الإسلامي (القرآن)، تشير الدراسة إلى ضرورة الوعي/ الوقوف على ما يلي:
أ- الوعي بحيوية الخطاب القرآني.
ب- أداة التدبر باعتبارها عملاً عقلياً منهاجياً.
جـ- تبني النظرة الكلية في التعامل مع سياق الخطاب القرآني، والانطلاق من الوحدة الموضوعية إلى الوحدة البنائية في التعامل مع القرآن في مجالات تخصصاتنا الاجتماعية.
د- البحث عن قواعد وأصول تنشئة الأمة.
هـ- تحديد الإطار المرجعي للتعامل مع القرآن الكريم ودعاماته الأساسية، وهي: التوحيد، الشرعة، الأمة، الاستخلاف، فيما يتعلق بالعلوم السياسية.
المنظور الحضاري.. مصادر التأسيس(3)
يتميز الإطار المعرفي التوحيدي في مصادره بوجود أصل ثابت لا يتغير ولا يسقط بالتقادم، وهو القرآن، الذي من شأنه أن يتيح المجال للتعامل مع الظواهر الحياتية والعمرانية ضمن ناموس التطور والحراك المنضبط والمشدود إلى سنن ثابتة، فيؤطر للحركة في ظل ثوابت، والنسبي ضمن المطلق، مع تأمين معايير التمييز بين كل في موضعه.
وتتمثل الدلالة المعرفية للوحي في جمعه بين ما هو مادي وما هو معنوي على نحو يستعصي على العقل البشري عند إرسائه لفلسفة وضعية من عندياته مستبعدًا للبعد الغيبي، فكان نتيجة ذلك إنتاج فلسفات متأرجحة بين أقصى طرف ونقيضه، من مادية مفرطة إلى مثالية أو روحانية معرفة، في حين يعطينا الوحي القاعدة للعمل التعقل في منظومة معرفية وسطية مزاجها التوازن والاعتدال.
إن المنهجية القائمة على المرجعية المعرفية للقرآن الكريم تسعى كعملية إلى استيفاء أصولنا القرآنية لمقومات النظرة الكلية التي ندعو إليها التي نفتقدها في كل من العقل المسلم المعاصر وفي تراثنا، وفي ذلك يجب أن نعرف مبلغ الخطأ الذي يتعرض له الناظرون في المناسبات بين الآيات حين يكفون على بحث الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة، غاضبين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة القرآنية في جملتها: فكر بجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور عن قصد(4).
القرآن والمعرفة المعاصرة
إن الجهد الذي ينصب عليه عملنا في اكتشاف منهجية القرآن المعرفية لا يهدف إلى تفسير القرآن الكريم، فله أولو العلم من أهله، ولكن إزاء جهد إنشائي تأسيسي في مجالات المعرفة المعاصرة، وخاصة هذه المجالات التي لها علاقة مباشرة برصد وتوجيه اتجاهات الاجتماع البشري، وإزاء هذه المهمة لا يسعنا إلا الرجوع إلى مصادر وجودنا الحضاري والكياني، لنستمد منها قاعدة الانطلاق وأساس البناء، وهذا ما يهمنا بالدرجة الأولى عندما نبحث في خصائص الكتاب القرآني من جانب، وعندما نسوقه نماذج من الأعمال المتاحة التي سبقت في هذا المضمار، مع تسليمنا بتفاوت خطاها في مجال عطائها، ولكن الذي يستوقف النظر فيهن جميعًا، هو اشتراكها في قاسم مشترك، فهي جميعًا تلجأ إلى الوحي كمصدر أساسي في تقويم المعرفة المعاصرة، وهي إذ تقدم على ذلك تعتمد الخطاب القرآن كعنصر حيوي فاعل في واقع المدركات المعاصرة، وفي سعيها هذا يتفاوت مقدار ما تنجزه بقدر استيعابها لأبعاد النظرة الكلية في التعامل مع مصادرها، وكأننا هنا إزاء ما جئنا به في صدد الوعي المنهاجي كضرورة يقتضيها التعامل مع مصادر تنظيرنا الإسلامية، تكون على أعقاب مرحلة تحول حقيقية بأن تجاوز بنا العقدة المنهاجية إلى ارتياد أبواب الوثبة الحضارية المرتقبة.
إن المصدر الرئيس لاكتشافات تلك الأسس هو القرآن الكريم، وهذا يتطلب الوعي به وبإمكاناته المعرفية، والاعتقاد المنهجي والمعرفي فيه كما الاعتقاد الإيماني، ومن السبل التي تشير إليها لهذا الاكتشاف نورد ما يلي:
1- حيوية الخطاب القرآني:
إن حيوية الخطاب القرآني إنما ترجع في جانب منها إلى الإعجاز البياني في الأسلوب القرآني في الخطاب، الذي يجمع بين خطاب النفس الإنسانية في أبعادها الفطرية والوجدانية وخطاب العقل في أبعاده المنطقية والبرهانية، ومناط الإعجاز هنا هو في تجاوزه للقوانين النفسية التي بمقتضاها نرى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل ونسب عكسية، ومؤدى هذا التضافر في ائتلاف بين نزعتين متنافرتين على هذا النحو.. إن الخطاب القرآني نموذج فريد للخطاب الاعتقادي الذي يحرك دوافع الاستجابة والفعل البشري من دون إسفاف أو إهدار للملكات العقل فيه.
2- الدلالة العلمية الحيوية:
الدلالة العملية لحيوية الخطاب القرآني تتمثل والاستفادة المنهجية والإجرائية منها في العلوم الاجتماعية، تتمثل في الاعتبار لوحدة الظاهرة الإنسانية، وذلك عند النظر إلى جوانب ومصادر السلوك الإنساني والسلوكيات في المجتمع، فإن علينا أن نتعامل مع الإنسان في وحدته المتضمنة لأبعاده المتنوعة، وأن تنطلق مناهجنا في التعامل مع الظواهر الاجتماعية من تلك القاعدة التي توفر لها أوسع قدر من التكامل الممكن أو سعة الأفق.
والوجه الآخر لهذه الملاحظة أن علينا أن نتعامل بكثير من التحفظ مع المناهج المتداولة في مجال التخصص ليس فقط للاعتبار الجوهري الذي يحكم منحاها جميعًا، الذي ينشأ عن المنطلقات الفلسفية المعرفية التي تقوم عليها، لما فيها مما يتنافى مع الأصول المعرفية الإسلامية، ولكن لأنها لا محالة واقعة بين مثالب الإفراد والتفريط، على النحو الذي من شأنه أن ينعكس في كل من طبيعة ونتيجة الدراسات التي ترتكز إليها، وأول ما نستفيده من التعامل مع أسلوب البيان القرآني هو ضرورة اتساق الأصول المعرفية، ومحتوى الرسالة، مع الأصول المنهجية، أو طرق الاقتراب أو التناول لها.
3- التكافؤ:
إن لنا أن نعتبر في البيان القرآني بالتكافؤ، الذي ينطوي عليه بين مضمون الرسالة وغايتها، فالقرآن الكريم لا يعني بمجرد الإعلام بالحق (أو التبليغ)، ولا يقف عند حد الدعوة إليه، ولكنه عمل على إعادة تشكيل وتكييف نمط الحياة في ضوء التنزيل، وهو يتوجه إلى النفس لتخريج نمط فذ من أفراد الأمة كما أنه يتوجه إلى الجماعة من خلال أفرادها لتخريج جماعة متميزة بين الجماعات البشرية، تكون القاعدة والنواة للأمة الوسط أينما حلت، وعلى من يتعامل مع الوحي في مصادره أن يعي هذه الحقيقة.
4- المنهجية:
إن المنهجية التي تركب في مجال من مجالات البحث في علوم الأمة عليها أن تحمل معالم التوجه الذي تتوخاه في مصادرها فتكون منهجية تحمل على حركة وتربط في الأبعاد العلمية والنظرية ويقودها هذا إلى النظر في المصدر الآخر لحيوية الخطاب القرآني الذي يمكن أن يكون له دلالات عملية، ونحن نترسم خطى المنهجية البديلة للتعامل مع التنظير للمعرفة الإسلامية بوجه عام، وفي التعامل مع مصادر هذا التنظير بوجه خاص.
________________________
(1) منى أبو الفضل: نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي: بين المقدمات والمقومات، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
(2) المرجع السابق، ص12.
(3) منى أبو الفضل: نحو منظور حضاري لقراءة سيرة وتاريخ المرأة المسلمة، مجلة المرأة والحضارة، العدد الثاني – 2001، ص160.
(4) منى أبو الفضل: نحو منهاجية التعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، مرجع سابق، هامش ص11.