مع تنامي الهجرة، وحالات التداخل التي تعيشها المجتمعات الحديثة، تبرز أزمات الهوية، باعتبارها من الأزمات المُنشئة للصراعات والاحتقانات الاجتماعية والدينية والعرقية، وهي أزمات لا تقتصر على التداخل بين الانتماء للأمة والانتماء للدولة القُطرية فقط، ولكن هناك مشكلات أعمق فيما يتعلق بتعارض الهوية تخص الأقليات المسلمة خاصة في الغرب، تُحدث ارتباكاً في مساحة التعايش، وضغطاً ضميرياً بين ما يفرضه الإسلام من متطلبات وأنماط الحياة في تلك المجتمعات.
أزمة التعارض
هذا التعارض بين الهويات يوقع المسلم في أزمات نفسية، قد تُفقد المسلم البوصلة الصحيحة لتوجيه سلوكه بطريقة تحافظ على هويته الدينية، التي تمنع ذوبانه في المجتمعات المختلفة دينياً وأخلاقياً، وبين خيار التحوصل والانكفاء على الذات، وإغلاق نوافد التواصل مع الآخر.
وإذا كانت الهوية هي مجمل الأشياء التي تميز شخصاً أو مجتمعاً عن غيره، فإن الفرد ذو هويات متعددة، وهو ما يدفعه لاكتشافها بصورة مستمرة ومتكررة مع كل آخر يلاقيه في الحياة، وإذا كانت اللغة تعرف «الهوية» بأنها البئر البعيدة القعر، فإن الهوية هي الذات العميقة التي تحدد بجلاء انتماء الفرد الأساسي.
لكن تبقى الهوية هي التي تحقق التماسك للفرد، وتمنعه من الذوبان والتلاشي، وكما يؤكد إريك أريكسون، أحد علماء النفس ورواد دراسة الهوية، أن الهوية هي ما يمنح الإنسان الشعور بأنه على قيد الحياة، ومن ثم فالهوية تحدد الانتماء والجهة التي يستقي منها الفرد أفكاره وقيمه ويدافع عنها ويحميها ويتفاعل وجدانياً مع قضاياها وأزماتها.
الهوية من المفاهيم الحديثة، إذ بدأ الاهتمام بها منذ الخمسينيات من القرن الماضي، لكنها أصبحت مفهوماً مركزياً مع تصاعد الهجرات والتداخل بين المجتمعات، فهي مفهوم متداخل بين النفسي والاجتماعي والسياسي والديني، لكن المفكر د. عبدالوهاب المسيري يعطيها جانباً آخر، في أنها رؤية كلية للكون، ويرى آخرون أن الهوية يجري تحديدها من خلال النزاعات والمعضلات أكثر من الاتفاق؛ وهو ما يعني أن اكتشافها يجري بواسطة الغير، وربما من خلال الأزمات معه أكثر من الاتفاق والتوافق معه، فيتحسس الشخص اختلافه وعناصر تميزه؛ لذا تأخذ الصراعات المرتبطة بالهوية عمقاً أكثر من الصراعات غير المؤسسة على الهوية.
إحدى العقبات التي تجعل هوية المسلم المعاصر مأزومة، أن المسلم خاصة المهاجر ينتقل إلى مجتمعات متفوقة عسكرياً وعلمياً واقتصادياً في كثير من الأحيان، ومن ناحية أخرى فإن العقيدة الإسلامية تحول دون انسحاق المسلم في تلك المجتمعات، إذ تُمده بثقة عالية في النفس، وإحساس بالتفوق، وهو ما يجعل المسلم يصمد أمام الضغط المادي الكثيف، ويسعى لإظهار تميزه ويبدى هويته بافتخار دون إحساس بنقص أو خجل، ومن ثم قد يعيش المسلم حالة من الاغتراب التي تعمق أزمة الهوية.
مواطنون لا مهاجرون
في العقود الأخيرة برز تعارض الهويات، ففي كثير من المجتمعات الغربية، التي استقرت فيها أعداد كبيرة من المسلمين، لم تكن قضية الهوية وتعارضها مطروحة، ربما لأن أغلب حالات الهجرات كان يُنظر للمسلمين فيها من خلال القضايا العمالية، فغالبية الهجرات كانت عمالية وساعية وراء العمل والرزق، لكن مع الاستقرار والتمتع بجنسية تلك الدول، تبدلت طبيعة الاهتمامات من الجانب العمالي إلى الثقافي والفكري، أي انتقل الاهتمام إلى الهوية، واحتلت دراسات الهوية الخاصة بالمسلمين مساحة متزايدة، وأخذ بعض الباحثين الغربيين ينظرون للهوية الإسلامية كعائق أمام اندماج المسلمين.
وقد تطرقت دراسات غربية إلى قضايا أخلاقية ودينية عند مناقشة الهوية، مثل: الحجاب وشرب الخمر والموقف من الشذوذ باعتبارها أحد عناصر التعارض في الهوية، ومثال ذلك، دراسة دنماركية عن شرب الفتيات المسلمات للخمر في الدنمارك، فبحثت شرب الخمر وتأثيره على انتماء للفتيات المسلمات للمجتمع الدنماركي، فامتناع المسلمات عن تعاطي الخمر، بدا كعائق أمام الاندماج، والمعروف أن شرب الخمر مستشرٍ في الدنمارك بصورة مرعبة، ويوجد ارتباط بين الهوية الدنماركية وشرب الخمر خاصة لدى الشباب، وخلصت الدراسة أن عدم شرب المسلمات للكحول تؤدي إلى تعرض العديد منهن «أزمة هوية»، وكأن الخمر باتت معياراً للاندماج، فالدنماركيون وصلت معدلات استهلاك الخمور في بعض السنوات لــ92% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18:24، فالسُّكْر يؤدي دوراً في تحديد هوية الشباب، وقد يغري ضغط الأقران بعض الشابات بشرب الخمر، ليتيح لهن تطوير علاقاتهن الاجتماعية، لكن الدراسة أكدت أن أكثر 70% من الشباب المسلم من غير شاربي الخمر.
وأظهرت دراسات أخرى أن الشباب المسلم في بلدان شمال أوروبا هم الأقل استهلاكاً للخمر من بين كل شباب الأقليات الأخرى المقيميين في أوروبا، لهذا كان الامتناع شرب الخمر هو أحد محددات الهوية المسلمة في أوروبا، لكن هذا التعارض الذي يكشف عن التميز والاختلاف بين المسلم وغير المسلم في المجتمعات الغربية، ورغم أنه قد يُعرض المسلم لبعض صعوبات الاندماج، لكن الخطورة الأكبر تكمن في الذوبان في تلك المجتمعات والتماهي مع انحرافاتها وتجاوزاتها، ولعل هذا التعارض هو أحد معالم اكتشاف الهوية المسلمة للشباب، فالهوية لا تتجلى إلا مع الخلاف والغيرية.
وكشفت دراسة أخرى عن وجود التباس للهوية لدى الأطفال المسلمين الأمريكيين، وأن هذا الالتباس يتفاقم مع بلوغ الأطفال سن الرشد، فاكتشاف الشاب المسلم لهويته الإسلامية، واكتشاف الآخرين لها، يعرض المسلم لمستوى من التمييز، وقد قارنت الدراسة بين ما يتعرض له المراهقون السود، وبين الشباب المسلم، فمع مرور الوقت يشعر المسلم بمستويات معينة من التحيز، خاصة إذا أبدى تعبيراً عن هويته سواء في الامتناع عن شرب الخمر، أو الصلاة أو ارتداء الفتيات للحجاب، وذكرت الدراسة على لسان فتاة عبارة مهمة قالت فيها الفتاة التي تبلغ 16 عاماً «عندما أضطر إلى الصلاة حول أصدقائي غير المسلمين، أجد نفسي لا أريد ذلك لأنني لا أريد أن أذكرهم بأنني مختلفة»، ورغم أن هناك من يجتهد في إبداء هويته الأمريكية، إلا أن الآخرين يصرون على النظر إليه من خلال هويته الإسلامية أو العربية، وهو ما يعني الإصرار على وجود تعارض بين الهويتين، مع استدعاء مواصفات وسمات هوية معينة وإسقاطها على ذلك الشخص، مثل محاول اتهامه بالإرهاب والتعصب، استناداً الدعاية السوداء التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون التي تقرن الإرهاب والتعصب بالإسلام.
لا شك أن السياق الاجتماعي والسياسي يصنع الفوارق بين الهويات، ويُنشئ التعارض بينها، بل يجبر الفرد على إعادة اكتشاف هويته وتطويرها، لكن الأهم أن تعارض الهوية ينذر بالخطر، فالفرد عندما يظن أن هويته مهددة، فإنه يسترجع تراثاً من التمييز والإجحاف وإهدار القيمة والحرمان داخل المجتمع، وأشارت دراسات إلى أنه عندما يتعرض أفراد الأقلية للتمييز من الأغلبية، تلجأ الأقلية لحماية هويتها عن طريق فك الارتباط بالهوية الوطنية التي تهيمن عليها الأغلبية، لكنه طريق قد يجر مشكلات كبرى، في المستقبل وقد يعرض الأقلية للاضطهاد.