أدب الوصايا أدب جليل قد أكثر منه أهل العلم لاسيما في الأزمان المتقدمة، وقد حفلت وصاياهم بكثير خير وبركة كما كانت حياتهم رحمهم الله.
وقد كتب التابعي والقارئ والمحدث الجليل أبو عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السلمى -رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ- المتوفى 74ه وصية عظيمة فيها من فاضل الكلام وعظيم النفع الشيئ الكثير، فقال في أولها:
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم
أوصيكم يَا أخي أحسن الله توفيقكم وَنَفْسِي تقوى الله كَفاك كل هم وَإِن اتَّقَيْت النَّاس لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا قَالَ تَعَالَى {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا}
وأوصيك بإيثار طَاعَة الله تَعَالَى وَاجْتنَاب مُخَالفَته والإقبال بِالْكُلِّيَّةِ عَلَيْهِ وَالرُّجُوع فِي كل هم ونائبة إِلَيْهِ وَترك الركون إِلَى الْخلق والاعتماد عَلَيْهِم وَإِيَّاك وَالرُّجُوع إِلَيْهِم فِي كل شَيْء من أسبابك بل يكون رجوعك إِلَى الله اعتمادك وتوكلك عَلَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} وَاعْلَم أَن الْخلق كلهم عاجزون ومدبرون وَمن عجز عَن نفع نَفسه كَيفَ يقدر على نفع غَيره وَلذَلِك قَالَ بعض السّلف استغاثة الْمَخْلُوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون
وَانْظُر أَلا يشغلك عَن الله تَعَالَى أهل وَلَا مَال وَلَا ولد فتخسر عمرك قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون}
وأوصى في ضمنها بالرفق فقال:
عَلَيْك بالرفق، وتودد إِلَى إخوانك وَأَصْحَابك بالاصطناع إِلَيْهِم والرفق بهم فَإِنَّهُ روى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (اصْنَع الْمَعْرُوف إِلَى من هُوَ أَهله وَإِلَى من لَيْسَ هُوَ أَهله فان لم يكن أَهله كنت أَهله)، وَقَالَ عليه السلام (مَا دخل الرِّفْق فِي شَيْء إِلَّا زانه وَلَا دخل الْخرق فِي شَيْء إِلَّا شانه)، وعود لسَانك الصدْق والنطق بِالْخَيرِ وَالْقَوْل بِهِ فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَهل يكب النَّاس على مناخرهم فِي النَّار إِلَّا حصائد ألسنتهم)، وَأخذ أَبُو بكر الصّديق رضى الله عَنهُ بِلِسَان نَفسه ينصحه وَجعل يَقُول هَذَا الَّذِي أوردني الْمَوَارِد
أنصف الْخلق من نَفسك، وصن نَفسك وسمعك عَن الِاسْتِمَاع إِلَى الْكَذِب والغيبة والبهتان والفضول فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا}
وختمها بقصيدة جميلة قال فيها:
… إِلَيْك مددت الْكَفّ فِي كل شدَّة … ومنك وجدت اللطف من كل جَانب
وَأَنت ملاذي والأنام بمعزل … هَل مُسْتَحِيل فِي الرَّجَاء كواجب
وَإِنِّي لأرجو مِنْك مَا أَنْت أَهله … وَإِن كنت خطاء كثير المعايب
رجاؤك رَأس المَال عِنْدِي وَربحه … وزهدي فِي الْمَخْلُوق أَسْنَى مَنَاقِب
فحقق رجائي فِيك يَا رب واكفني … شماتة أعدائي وأسوة صَاحب
وَمن أَيْن أخْشَى عدوا وإساءة … وسترك خَلْفي من جَمِيع الجوانب
فيا محسنا فِيمَا مضى أَنْت قَادر … على اللطف فِي حَالي فَحسن عواقب …
فرحمه الله ورضي عنه وسائر أئمة المسلمين.