تناولنا في الجزء الأول من هذه المقالة ضرورتين من الضرورات الحضارية لتجديد التعليم الفقهي، هما: إعادة الفقه الإسلامي إلى الحياة الإسلامية، قصور العناية بالتربية الفقهية للنشء، ونستكمل هنا باقي هذه الضرورات وهي كما يلي:
3- الإشكاليات العلمية: الازدواجية المعرفية:
من أخطر ما أصاب الشخصية المسلمة في ضوء ضعف ارتباطها بمرجعيتها الإسلامية واستسلامها لـ«الأوربة» الغربية في مظاهرها المرضية –خصوصًا- هو ما عرف في المشهد الثقافي الإسلامي بالازدواجية المعرفية ما بين المرجعية الدينية والحضارية من ناحية، ومرجعية النظم التعليمية الحديثة من ناحية أخرى، ما جعل الشخصية المسلمة والمنحى التربوي المرجعي يعيشان حالةً من الانفصال المجتمعي والنفسي أيضًا، فانقسم التعليم –المسئول عن تكوين الشخصية المسلمة- إلى ديني ومدني، لا يرتبط أحدهما بالآخر، ولا يسيران في طريق واحد، ولا يؤديان مهمةً واحدة، بل يسيران في طريقين مختلفين، ويؤديان مهمتين متباينتين، ولا يوصلان إلى نفس الطريق.
كما يتعلق بنفس تلك الإشكالية إشكالاتٌ أخرى ترتبط بأوضاع المسلمين الحاليّة، وتعمل أسبابٌ ونتائجُ في الوقت نفسه لمزيد من المشكلات، وهي إشكالات متشابكة ومتراكبة ومتراكمة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر «إشكالات المناهج، والتعليم المدرسي، وتخلُّف النظم التعليمية في البلاد العربية وازدواجها، وهيمنة طريقة الحياة الغربية، وضغوط العولمة.
ومن المؤكد أن المشكلات التي تنجم من هذه العناقيد من الإشكاليات ليست عوامل إعاقة أو نتائج جمود فقط، بل هي عوامل هدم وتراجع، ونتائج مزيد من الهدم والتراجع والسقوط التي تواجهها أمة الإسلام.. ولا بد أن تؤخذ في الاعتبار عند وضع برامج تأهيل تربوي لطلبة الفقه في الجامعات.
من هنا، أضحى لدينا شخصيات متعددة المشارب الفكرية في واقع المجتمع المسلم، ومن هنا فإن دعوة التجديد الفقهي تأتي لبناء قاسم مشترك للشخصية المسلمة تنطلق منه في رؤيتها لذاتها ولمجتمعها، ولإشكالاتها ولحاضرها ومستقبلها، ولا نعني بذلك القولبة والتنميط، لكن نعني وجود خلفية فكرية مشتركة في الأسس والقواعد المرعية في البناء التربوي والقيمي الإسلامي.
4- المسؤولية الحضارية لنظام التربية والتعليم:
إن النظام التعليمي في الأمة هو المسؤول الرئيس عن تضمين «التعليم الفقهي» في الخارطة الدراسية والمعرفية في تعليم المسلمين، ولا يختص بذلك نوع من التعليم دون نوع آخر، ولا مؤسسة تعليمية دون مؤسسة تعليمية أخرى، ولا مرحلة تعليمية دون مرحلة تعليمية، بل يجب أن يكون ممتدًّا ومستمرًّا في كل أنواع التعليم بكافة أشكاله ومؤسساته.
كما تزداد مسؤوليته في ظل الازدواجية المعرفية والثقافية التي يشهدها هذا النظام في أغلب البلدان الإسلامية منذ القرن الثامن عشر –قرن الاستعمار والاستلاب الفكري – الذي انقسم فيه التعليم إلى مسارين؛ الأول: التعليم الديني أو التقليدي الموروث الذي لم تمتد إليه يد التطوير والاجتهاد إلا بالنذر اليسير في الجانب الشكلي والاختزالي، وبقي على حالته أسير كتابات التراث، والنمط الحديث الذي تم استيراده هيكلًا وتصورًا وفلسفة من النظام الغربي، ومن ثم أصبح فارغًا من مسؤولية «التربية الفقهية» لملايين الطلاب الذين ينضوون تحته كل عام، وكأن الالتزام بالمعرفة الفقهية والوعي بها يتعلق فقط بالتعليم (الديني) وطلابه! كما اصطُلِح على تسمية التعليم الموجود في الأزهر والزيتونة والقيروان.
5- موقع «التربية الفقهية» في نظام التعليم العام:
لا يوجد مثل تلك التسمية «التربية الفقهية» أو «التعليم الفقهي» في نظام التعليم العام في كثير من الدول العربية، والقريب من هذا المسمى «التربية الإسلامية» وهو مفهوم عام يشمل موضوعات أخلاقية متنوعة غير مترابطة، ولا يحقق أهدافًا منظومة، وربما يتضمن جانبًا من بعض التعاليم الفقهية، ويطلق كذلك مسمى «دين» على الحصة المخصصة للتربية الدينية الإسلامية، في محاولة لاختزال مفهوم «الدين» في حصة زمنية وحيدة في الجدول المدرسي، كما أنها في أغلب اللوائح التعليمية لا تضاف نتائج اختباراتها إلى المجموع العام في التقويم الدراسي؛ وهو ما يخفض من قيمة المادة المتداولة، ولا يتضمن المقرر سوى عدة موضوعات مفردة تنتمي تارة إلى الفقه أو الأخلاق، وهي من حيث المضمون والمساحة المعطاة –بالإضافة إلى الهدف والفلسفة الكامنين– لا تؤثر في بناء شخصية الطالب أو تبرز هويته الإسلامية فيها.
من هنا، فإن الدعوة إلى تجديد درس التعليم الفقهي تتعلق كذلك بمساحات تواجد هذا الدرس وتطوير تلك المساحة من حيث الشكل والمضمون والوزن النسبي للموضوعات، حيث لا ينبغي أن تحدد مساحات لتواجد هذا الدرس وتغيبها في أماكن أخرى، أو تختزل في صفوف وتجمد في صفوف أخرى، أو تتعلق بفئة من الطلاب دون فئة أخرى، ومن ثم فهذه الدعوة في أحد وجوهها استعادة تكامل العلم بالمفهوم الإسلامي بما يتلاءم مع الشخصية الإنسانية المسلمة.
6- إعادة صياغة الإنسان المسلم من جديد:
إن جوهر فكرة تجديد «التعليم الفقهي» في البرنامج التربوي المقدم للأمة تتحدد في إعادة بناء الشخصية المسلمة من جديد، وتحديدًا إعادة صياغة نظامها الفكري ومنهجها في النظر إلى الإسلام من ناحية، وإلى ذاتها الحضارية من ناحية ثانية، ثم إلى العالم من ناحية ثالثة، وإن تقديم «الفقه» للأمة بصورة مترابطة بين (العقيدة والشريعة والقيم) من شأنه أن يُسهم بوضوح في إعادة تشكيل شخصية المسلم المعاصر، ويجنبه كثيرًا من أوجه التشوهات الفكرية التي أُلصقت بفكره وحركته في فترات الضعف والتراجع، وهذا المبدأ التربوي يمكن صياغته في مقولة مفادها: إعادة اكتشاف الإسلام وإدراك حقائقه التي تسهم في التغيير الذاتي والتغيير المجتمعي والتغيير الحضاري، فالإسلام في حقيقته منهج للتغيير في الأنفس وحركة الناس والتاريخ.
7- جمع ما تفرق:
تهدف الدعوة إلى تجديد التعليم الفقهي أيضًا إلى «جمع ما تفرق» من الفكرة الإسلامية، التي تمذهبت بالفقه، وبدلًا من أن يكون الفقه عامل وحدة وتنوع وثراء وغنى، تحول عبر الزمن وبعوامل متعددة –أهمها المنحى التعليمي والتربوي- إلى عامل عَداء وفرقة واختلاف؛ لذا فإن هذه الدعوة تقوم على إعادة بناء درس الكليات الكبرى الرئيسة للشريعة الإسلامية في المجال التربوي والتعليمي لمؤسسات التعليم في الأمة، التي فيها يتجاوز الاختلافات الفقهية المعيقة لوحدة الشخصية المسلمة، وبناء نماذجها المُعَلِّمة، ومن ثَمَّ فإن من دوافع التجديد في درس التعليم الفقهي استعادة اتفاق الأمة على كلياتها الرئيسة ومقاصدها الواضحة، التي هي مصدر اتفاق عام نحو بناء شخصية إسلامية على قاعدة (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (المؤمنون: 52).