الوحي هو الأصل الذى يرجِع إليه العقل، والمرجعيّة التي يتحاكم إليها، والميزان الذي يختبر عنده مُقرَّراته ومفاهيمه وتصوراته، ويصحح به اختلالاته وانحرافاته، فبينهما توافق وانسجام على أساس تفـاعـل العقل مع الوحي بالتلقي منه والانضباط على هُـداه، لا أن يكـون حاكمًـا عليه أو موجّهًـا له.
وبناء عليه، كيف يكون إذاً إعمال العقل المسلم عمليًّا؟
1- عقل آيات الله تعالى والاستدلال بها عليه:
(كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُــمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُــــــونَ) (البقرة: 242)؛ (وَعَلامَــــــــاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل: 16): «خَلَقَ اللَّهِ لَهُمُ الْعَلَامَاتِ، وَنَصَبَ لَهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَوَجُّهُهُمْ إِلَيْهِ بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي خَلَقَ لَهُمْ، وَالْعُقَوْلِ الَّتِي رَكَّبَهَا فِيهِمُ: الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْعَلَامَاتِ، وَكُلُّ هَذَا بَيَانٌ وَنِعْمَةٌ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ» (الشافعي، الرسالة).
وتأمل في التعريف اللغوي للفظة «بهيمة» ومختلف اشتقاقاتها، من «لسان العرب»:
– الْبَهِيمَةُ: كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعِ قَوَائِمَ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْمَاءِ.
– كُلَّ حَيٍّ لَا يُمَيِّزُ فَهُوَ بَهِيمَةٌ، لِأَنَّهُ أُبْهِمُ عَنْ أَنْ يُمَيِّزَ واستعصى عليه ذلك.
– أمر بَهيم: يُضْرَبُ مَثَلًا لِلْأَمْرِ إِذَا أَشْكَلَ بحيث لَمْ تَتَّضِحْ جِهَتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ.
– طَرِيقٌ مُبْهَمٌ إِذَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَسْتَبِينُ.
– وَالْمُبْهَمُ وَالْأَبْهَمُ: الْمُصْمَتُ قَلْبَ الْكَافِرِ مُصْمَتٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ وَعْظٌ وَلَا إِنْذَارٌ، كأولئك الذين وصف الله تعالى قلوبهم بقسوة الحجارة أو أشد.
فانظر كيف أنّ الكفر بالله تعالى فيه من البهيميّة ما يُزْرِي بكرامة العقل وصاحبه، إذ ما نفع العقل لمن لا يفقه بقلبه أو يبصر بعينه أو يسمع بأذنه؟ كما قال الله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179)، وعدم الفقه هنا يعني أنهم لا يعقلون من أمور المَعاد ما ينفعهم في آخرتهم كما يعقلون أمور المعاش في دنياهم، فلا يبصرون آيات الهدى ولا يسمعون مواعظها.
وكلّ سياقات العقل في القرآن كانت دعوة لإعماله فيما جعل الله من آيات في الآفاق والأنفس للاهتداء إليه تعالى، ولا بد للناظر في آيات الله بصدق أن يهتدي لله، لأنها منظومة متكاملة من الله وإليه، وفي وُسع كل عقل أن يهتدي لأنه مخلوق لذلك، وإنما تَعرُض له موانع تطمس نوره وتشوّه فطرته وتنتهك سَواءَه، على ما سنبيّن في الآفات الفكريّة والوجدانيّة.
2- التفكر في العلوم والمعارف الحسية والمعنوية:
التفكر مفتاح كل ما نحن فيه اليوم من تقدم وعلوم، والتفكر ليس عملية خلق من عدم تمامًا، بل ببساطة رؤية أخرى للموجود، وسرّ ما أصاب العقول من ركود وعُقمها عن الحَبْل بجديد، هو قلة إعمالها في الموجود، واكتفاؤها بتخزينه على ما هو عليه، والعقل لم يُجعل لمجرد التكويم ودوام حفظ ما لا عمل له فيه ولا حاجة له إليه، تخيّل لو أننا نبتلع طعامًا تلو طعام بغير هضم! لن يفيد الجسم شيئًا بمجرد الإدخال، وإنّما تتم عملية بناء الجسم بالمهضوم من الطعام، ثم يَلفِظ ما عداه مما لم يُهضَم ليصون نفسه من التُّخَمَة القاتلة، وكذلك يكون بناء العقليّة بطلب العلم حسب مراتب الحاجة، وإعمال الفكر فيه بقدر البناء المنشود.
وتأمل فيما أورده الإمام الغزالي رحمه الله في «الرسالة اللَّدُنيَّة»: «التعلم الرباني يكون على وجهين؛ أحدهما من خارج وهو التحصيل بالتعلّم، والآخر من داخل وهو الاشتغال بالتفكر، والتعلم يحتاج إلى التفكر، فإنّ الإنسان لا يقدر أن يتعلم جميع الأشياء الجزئيات والكليات وجميع المعلومات، بل يتعلم شيئًا ويستخرج بالتفكر من العلوم شيئًا، وأكثر العلوم النظرية والصنائع العملية استخرجتها نفوس الحكماء لصفاء ذهنهم وقوة فكرهم وحدّة حدسهم من غير زيادة تعلم وتحصيل، حتى إنّ المهندس لا يتعلم جميع ما يحتاج إليه في طول عمره، بل يتعلم كلّيات عِلمه وموضوعاته، ثم بعد ذلك يقيس ويستخرج، وكذلك الطبيب لا يقدر أن يتعلم جميع جزئيات أدواء الأشخاص وأدويتهم، بل يتفكر في معلوماته الكلية ويعالج كل شخص بحسب مزاجه، وكذلك الفقيه والأديب، وجميع الصنائع البدنية والنفسانية، أوائلها مُحَصّلة من التعلم والباقي مستخرج بالتفكر».
تنبيه: من آثار المستوردات الأجنبية ذيوع عبارة: «الدين يعترف بكذا»؛ والأَوْلَى لنا استعمال ألفاظ: يُثبِت ويُقَرِّر، أو ينفي ويدحض، فالدين عند المسلم يحكم ويقضي بالحقّ، ولا يوضع موضع المذنب أو المتّهم المُطالَب بالإقرار، وهذا غالب سياق استعمال لفظة الاعتراف، خاصة في القرآن الكريم، والمسلم أولى الناس برعاية قدر الدين القيّم الذي كُرِّم بالانتماء له
3- الإعمال في مصادر التشريع فقهًا وتأصيلًا واستنباطًا ووسيلة فهم شرع الله وفقه أحكـامه:
خلق الله الإنسان بجهاز إدراكيّ محدود تحقيقًا لحكمته تعالى في تكليف العباد بالشرائع والأحكام، فشأن الوحي صياغة الكليّات الشمولية والثوابت اليقينية والأطر العامة، وشأن العقل بما أهَّلهَ الله له أن يبدع من الأدوات ويؤصِّل من المناهج في ضوء تلك الأطر، وأن يجتهد في التفاصيل والجزئيات تفريعًا على تلك الكلّيات، بما ييسر استقامة الناس على شرع الله في أرضه باختلاف الأزمنة، وقِسْ على هذا المبدأ في مختلف مجالات العلوم تجد وظيفة العقل أن يُعمَل في مواردها فهمًا وتفقّهًا، ثم تفكرًا واستنباطًا، ثم تأصيلًا وتجديدًا، والمسلم المُكلَّف مُطالَب في الأساس ببذل وُسعه في فهم واستيعاب ما لا يَسَع مسلمًا الجهل به، والتفكر في الشرع والكون والنفس، بهدف تقوية الإيمان وتصحيح التعبد والتعامل، وترشيد السلوك وتهذيب الأخلاق.
العقل السَّوِيُّ والفكر الناضج ﻻ يغنيان عن الوحي لكن امتلاكهما شرط لصواب الحركة به، إذ إن فقه الحـركة بالمنهج الربّاني يعتمد أساسًا على تشغيل العقل بطريقة سليمة في المنهج المُعطى، وكم ضل أقوام بسبب فجاجة عقولهم وخلل تفكيرهم، ولو على صدقهم وإخلاصهم.
4- عَـقْلُ كيان الإنسان ونفسه:
أي ضبط دواخل النفس واعتمالاتها، وكبح جماح اتباعها الأعمى للهوى، وحجزها عن المهالك الدنيوية والأُخروية، وانظر في قوله تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) (المائدة: 58)، فوَصْفُ الكفّار بعدم العقل في السياق لا يعني خُلوَّهُم من العُضو أو تَلَفَه فيهم، بل يُقصَد به جهلهم بقدر الله تعالى وقدر عبادته وعاقبة استهزائهم، فلذلك هم بمنزلة من لا عَقلَ له يمنعه من القبائح، أو السَّفيه الذي لا يَعي قدر ما يهزأ به لجهله وحماقته، والحُمق قلة العقل!