«أحياناً يحسب المرء أن قصة ما انتهت، فإذا بها تبدأ»(1)، في 27 نوفمبر 1095م، أطلق البابا أوربان الثاني من كليرمون بفرنسا شرارة الحروب الصليبية لاستعادة القدس، وفي 15 يوليو 1099م يسيطر الصليبيون على القدس، وبعد قرنين تنتهي تلك الحروب في العام 1291م مع تحرير السلطان الأشرف صلاح الدين خليل مدينة عكا، بعد احتلال صليبي دام مائة عام.
في الشرق، أقام الصليبيون 4 دول؛ هي: الرها التي نشأت عام 1098م وسقطت عام 1150م، وأنطاكية التي نشأت عام 1098م وسقطت عام 1287م، وطرابلس التي نشأت عام 1102م وسقطت عام 1289م، ومملكة بيت المقدس التي نشأت عام 1099م وسقطت عام 1291م، التي كانت تغطي غالبية أراضي فلسطين، وأراض من لبنان وسورية وجنوب شرقي تركيا.
قرابة مائتي عام، لم تهدأ الحروب في الشرق، ولا صيحات الجهاد بتحرير الأرض، كذلك لم يتوقف الدعم الأوروبي لتلك الإمارات الصليبية بالمال والسلاح والرجال، ومع هذا انطوت تلك الصفحة التي ظنت الأجيال التي عاشتها أنها لن تطوى ولن تنتهي.
ورغم أن الفارق بين المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في 29 أغسطس 1897م، الذي دعا إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وانتهاء الحروب الصليبية، هو 6 قرون، فإن خبرة الحروب الصليبية وما آلت إليه من فشل، ظلت إنذاراً مرعباً للحركة الصهيونية، أسماها المؤرخ السوري شاكر مصطفى «عقدة الصليبيات».
«إسرائيل» والدراسات الصليبية
عقب سنوات من نشأة «إسرائيل»، صعد الاهتمام بالدراسات الصليبية في الجامعة العبرية، وأولى مؤرخون ومفكرون «إسرائيليون» اهتماماً بدراسة الحركة الصليبية، وأسباب فشلها، رغم نجاحها في إنشاء 4 دول قوية، استمرار بعضها أكثر من 190 عاماً، ولعل ذلك يرجع للتشابه الكبير بين المشروعين الصليبي والصهيوني، فكلاهما كان استعمارياً استيطانياً، مدعوماً بالكامل من الغرب، وكلاهما كان من غير نسيج المنطقة، ويعاني من ضعف بشري في مواجهة طوفان بشري عربي معادٍ يحيط به من كل جانب، وكلاهما اعتمد على السلاح والحرب لتثبيت وجوده.
ينقل الكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت عن مذكرات المؤرخ «الإسرائيلي» أروي أفنيري أنه عندما قرأ عام 1948م كتاب الحروب الصليبية للمؤرخ الإسكتلندي ستيفن رنيسمان، اكتشف أن الصليبيين كانوا متحصنين في نفس الأماكن التي يتحصن فيها «الإسرائيليون» في قطاع غزة، وأنه ناقش ذلك مع رنيسمان في لقاء لهما بلندن، وكان أول سؤال عرضه أفنيري هو: عندما ألّفت كتابك، هل خطر في بالك أنّ هناك تشابهاً بين الصليبيين في الماضي والصهاينة في أيامنا؟
فرد عليه رنيسمان: لم يخطر ذلك على بالي فقط، ولكن أردت أن أضع للكتاب عنواناً فرعياً هو دليل للصهاينة حول ماذا عليهم ألا يفعلوا، ثم يضيف رنيسمان أن أصدقاءه من الصهاينة نصحوه بتجنب ذلك.
ربما جاء هذا الرفض بسبب أن إطلاق جرس الإنذار المبكر للحركة الصهيونية بأن مصيرها سيتشابه مع المشروع الصليبي، سيؤثر سلباً على الحماسة الصهيونية للقدوم إلى فلسطين والتمسك بأرضها.
ويتفق ذلك مع أول كتاب «إسرائيلي» عن «الصليبيات»، الذي صدر قبل قيام «إسرائيل» بـ17 عاماً، ففي العام 1931 أصدر المؤرخ «الإسرائيلي» شموئيل أوسيشكين كتابه «الغرب في الشرق: تاريخ الصليبيين في أرض إسرائيل»، الذي قال فيها قال فيه: إن الإشكالية الجوهرية التي واجهت الصليبيين هي ذاتها التي تواجه اليوم بني إسرائيل، الذين يتطلعون للعودة لوطنهم؛ فكانت المشكلة الرئيسة التي واجهت الصليبيين هي الكيفية التي سيستقيم وفقها لها إقامة مركز مسيحي ينتظم في صف واحد مع الدول الشرقية المسلمة، التي يختلف عنها في دينه وأصله ولغته وحضارته؛ مركز قادم من الغرب ويستمد قوته منه، وهو التساؤل ذاته الذي يحضر اليوم ويواجه الصهيونيين.
هذا الشعور الصهيوني المبكر بحتمية المصير الصليبي لمشروع «إسرائيل» في المنطقة، هو ما بث قلقاً حقيقاً لدى مهتمين بصناعة التاريخ والفكر في «إسرائيل»، وأوجد هاجساً لديهم أن «إسرائيل» ما هي إلا وجود مؤقت.
يذكر المؤرخ السوري شاكر مصطفى أنه تفاجأ بكتاب للمؤرخ «الإسرائيلي» عمانويل سيفان بعنوان «الإسلام والصليبيات»، ويعد تلخيصاً لدراسات مكثفة بعد 15 عاماً من إنشاء «إسرائيل»، قامت بها لجنة علمية تحت رئاسة المؤرخ جوزيف براور الذي أصدر كتابه «المملكة اللاتينية في القدس» عام 1962م، واستطاع بناء شبكة كبيرة من الباحثين الغربيين، فدرسوا تاريخ الحروب والممالك الصليبية، وكذلك التاريخ الإسلامي.
كان براور يرى أن الاختلاف بين الصليبيين و«الإسرائيليين» يكمن في أن اليهود استقروا على الأرض وعملوا بها، أما الصليبيون فسيطروا على الأرض، التي غزوها وعمل بها السكان الأصليون للبلاد، يقصد العرب خاصة الفلسطينيين، وهذا سبب خسارتهم في النهاية، كما أن الصليبيين كان في الأساس وجودهم حضرياً.
وربما هذا ما دفع الصهيونيين إلى التوسع الزراعي وبناء القرى التعاونية، فمثلاً يوجد في منطقة غلاف غزة وحدها أكثر من 58 قرية تعاونية؛ وهو ما يعني أن «الإسرائيليين» سعوا لتفادي المأزق الصليبي؛ لذلك توسع «الإسرائيليون» في تهجير اليهود من العالم، وتوطينهم وتوفير سبل الحياة لهم في الأرض الفلسطينية لتكون لهم مستقراً، وكان منطقهم أن الاستقرار في الأرض يعني النجاح.
أما المؤرخ البريطاني نيكولاس مورتون في كتابه «حقل الدم: معركة حلب وإعادة تشكيل الشرق الأوسط في العصور الوسطى»، فإن الصليبيين واجهوا تحديات، أبرزها أن أعدادهم قليلة، أما أعداؤهم فكانوا كثيري العدد، وهو مأزق وجودي لا يختلف عن المشروع الصهيوني، كما أن الصليبيين اعتمدوا على طرق إمداد بعيدة من العالم المسيحي، وتوسعوا في جميع الجبهات، ومع انتصاراتهم الأولى ظنوا أنه لا يمكن إيقافهم فتحركت قواتهم من السواحل إلى الداخل.
والحقيقة أن تلك الملاحظة التي تحدث عنها مورتون تعني فقدان القدرات الصليبية لقوة تأثيرها بفعل الانتشار والتوسع، إضافة إلى الاصطدام مع قوى الداخل العنيدة، المنتشرة على رقعة واسعة من الأرض، وهو ما يتشابه حالياً مع الجبهات القتالية المتعددة التي تفتحها «إسرائيل» للقتال.
ربما تحاول الدراسات «الإسرائيلية» لـ«الصليبيات» تجنب مصير الصليبيين في الشرق، والنظر للمشروع الصهيوني في فلسطين على أنه استثناء في التاريخ، لكن الواضح أن «الإسرائيليين» يسيرون بخطى أسرع من الصليبيين في الإجهاز على مشروعهم الاستعماري الاستيطاني.
__________________________
(1) قولة للأديب الفلسطيني غسان كنفاني.