مشهد عديم الإبْـهَاجِ، يزاحم ألمه قسوته، ولكنه جمع العظمة من جميع أطرافها، وبات قلَّما يناظر، إنَّـه يحجب خلفه جنَّـة عرضها السماوات والأرض.
كان يدرج في باكر شبابه، أو في منتصف الطريق بين الصِّـبَـا والشباب، تـأَمَّـمَ(1) الحوض الذي بناه المسلمون قبل الحرب يوم «بدر»، وفي هدوء ووداعة رفع قَـعْـبًا(2) مليئاً بالماء إلى فيه(3)، ارتشف منه شيئًا، وإذا بسهم ليس فاقدًا للهوية، يرمز إلى مهارة راميه حبَّـان بن الْعَرِقَةِ(4) يقع في حنجرته يقطع عليه شربته، بل أنفاسه، بل حياته.
ووسط نظرات من حوله التي عانقته في دهشٍ، ترنحت ساقاه من تحته، وسقط تُدثِّـره جموع الملائكة، انعكس أثر ألم السهم على وجهه قليلًا، وما أن انْسلَّت(5) منه روحه حتى تلاشت آيات الألم، واستأثرت بوجهه آيات الرضا بالمصير، والرامزة إلى ما يستشرفه الشهيد من فضل الشهادة مع أول دفقة من دمه.
لحظات، وجذب آخر أنفاسه، وأطلق قلبه آخر دقاته وتوقف لتتوقف به الحياة إلى هنا، وكما ينشد العصفور مأواه في أعالي الأشجار، نشدت روحه مقعدها في أعالي الجنان.
وحتى يستقر المشهد في إطاره السعيد تعالوا نتعرض لقصه الفتى، التي أوردتها المصادر في إشارة خاطفة.
هو حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك الأنصاري الخزرجي النجاري، أمه الربيع بنت النضر، أخت أنس بن النضر، وعمه أنس بن مالك، رضي الله عنهم جميعاً.
كان حارثة بن سراقة غلًاما حديث السن، لم يطر شاربه(6) بعد، أو أنه كان حديث العهد بالشارب، ورغم حداثة سنه انحصرت قضية الإسلام في إدراكه الفاقه(7) على عظمتها وخطرها فراح يتحين سانحة(8) لنصرتها.
وفي يوم «بدر» سنحت له فخرج منضويًا تحت لواء التوحيد بعد أن استقرت بذهنه فكرة هذا الانضواء، وقد انضاف إليها الأسباب والتفسير، فقد كان يعي ما يدور حوله، وقبل ذلك وفوقه كان يسلك قبل الأوان مسالك الرجال، فلم يكن هو أدنى حماسة منهم، ولا كانوا هم أكثر منه حرصًا على نصرة دين الله، ونشر دعوته.
أجل، كان حارثة يعي دواعي التجربة حيث تضامت(9) مفرداتها وتجمعت في إدراكه الوجداني، فانطلق مع الجيش تجذبه سعادته من أمام وتدفعه غبطته من خلف.
وبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ماء «بدر»، ليسبق المشركين إلى هناك، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل صلى الله عليه وسلم عند أدنى ماء من مياه «بدر» في أول الليل، فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه في خبرة عسكرية بادية: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة».
فقال الحباب رضي الله عنه: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم(10)، فَـنُـزِلْهُ ونغور(11) ما وراءه من القُلَبْ(12) ثم نبني عليه حوضاً، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي»(13).
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بإنفاذه، فلم يجئ نصف الليل حتى تحولوا كما رأى الحُباب بن المنذر، وامتلكوا مواقع الماءِ.
ونهض صلى الله عليه وسلم إلى أقرب ماء من العدو، ونزل عليه بالجيش شطر الليل، ثم بنوا الحياض، وغوروا ما عداها من الآبار.
وكان الفتى حارثة بن سراقة نظارًا مع بعض الجيش خرجوا في مهمة استكشافية لجيش العدو، وقصد أحد حياض الماء ليشرب، بيد أنه كان هناك من يرقبه ويتعقبه، فما أن رفع الماء إلى فيه حتى رماه حَبَّـانُ بن الْعَرِقَهِ بسهم لم يخطئ حنجرته.
أرى أن نتأمل مشهده الذي أسلفناه ثم نعود إلى القول:
وكان تأثير الحدث في نفس أمه الرُّبَـيِّعُ بنت النَّـضْرِ عميقًا مزلزلًا، فكيف ينتزع حارثة من دنياها بهذه السهولة، وهذا البِدَار، ويحال بينها وبينه إلى الأبد؟!
ولم تكن تحبه أعمق الحب وأصدقه وحسب، وإنما كانت حياة حارثة تنتظم كل حلو في دنياها، وبرحيله تجللت دنياها بحزن ممرور، فأَمَّتْ النبي صلى الله عليه وسلم، ودقات قلبها تتابع وتشتد، أمَّت الواقي لهم من العاديات وغصص الجوى تتزاحم في فؤادها وعلى لسانها، وانتزعت الكلمات من حنجرتها التي راحت تتحسسها وتتمنى أصدق التمني لو افتدت بها حنجرة ولدها، قالت وحزن الثَّـكْلِ(14) يشطر الفؤاد: يا رسول الله، قد عرفت منزله.
ولكن أليس من الفضل والمزيِّـة أن ندع شاهد عيان يروي لنا الواقعة؟ لا سيما وأنه ابن أخيها أنس بن مالك، يقول رضي الله عنه: أصيب حارثة يوم «بدر» وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأُخرى ترى ما أصنع.
فقال صلى الله عليه وسلم: «ويْحَكِ، أوجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، إنه في جنة الفردوس»(15).
فعادت الربيع رضي الله عنها صابرة محتسبة، تلمع العبرات السعيدة في مآقيها، معتمدة على الله عز وجل في روعة مصير فقيدها الغالي، فقد كانت تملك من وضوح الرؤية ما يجعلها تحس معنى هذا الاعتماد، وتطمئن إليه بقلبها وعقلها وضميرها.
ومن حين لآخر تشرع أذنيها مدققة في سعادة إلى النبرات النبوية الشريفة تردد فوقها في أجواز الفضاء الوسيع: «ويْحَكِ، أوجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، إنه في جنة الفردوس»، فَـتُرَدد بهيجة رغم أتراحها، شجيَّة رغم أفراحها: بَخٍ بَخٍ(16) لك يا حارثة.
وعاشت الربيع بنت النضر رضي الله عنها في دنيا الله ما بقي لها أن تعيش، ثم رحلت قريرة النفس، راضية الضمير، معتمدة على التاريخ شريف الغرض نزيه الغاية في ترديد صدى رسالتها، وما كَـفَّ صداها عن التردد:
يصبر كل مصاب فقد عزيز عليه في سبيل الله.
يحثِّ ويرغب الشباب المسلم في الجهاد وعليه، لإعلاء كلمة الله الحق من أجل الحق.
يُبَيِّـن فضل الجهاد وعلو منزلة الشهيد، وحقارة الدنيا بالنسبة لها.
يُبَيِّـن أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، ومصدر عزِّ المسلمين(17).
____________________________
(1) قصده وتعمَّده.
(2) قدحٌ ضخم غليظ.
(3) إلى فمه ليشرب.
(4) وهو حبَّان بن قيس، من بني معيص بن عامر بن لؤي، ولئن صح حدسنا فإنه كان ماهرًا في رمي السهام، وهو الذي أصاب سعداً بن معاذ يوم الخندق في أكحله وهو يقول: خذها مني وأنا حبَّان بن العرقة، فرد عليه سعد رضي الله عنه: «عرَّق الله وجهك في النار» (انظر الإصابة (3213)، الاستيعاب (963)، أسد الغابة (2046).
(5) خرجت في خفة ويسر وانفصلت عن جسده.
(6) لم ينبت شاربه.
(7) الفاهم الواعي.
(8) فرصة.
(9) انضمت وتجمعت.
(10) جيش قريش.
(11) نخرب.
(12) القُلَبْ: جمع الَقَليبُ، وهو البئر.
(13) ضعفه الألباني إسناده في فقه السيرة (224).
(14) الثَّـكْلٌ: فقد الحبيب، والثُّكول من فقدت ولدها.
(15) حديث صحيح أخرجه البخاري (3982).
(16) اسم فعل للمدح والإعجاب والرضا بالشيء، ويكرر للمبالغة.
(17) الإصابة (1529)، الاستيعاب (459)، أسد الغابة (993).