واصل نبي الله موسى السير بقومه قافلاً من مصر إلى فلسطين، تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، فلما أشرف على أبواب الأرض المقدسة، وقبل أن يأمرهم بالدخول، ذكرهم بفضل الله ونعمه عليهم قائلاً: (يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ) (المائدة: 20).
يقول صاحب «الظلال»: «وإننا لنلمح في كلمات موسى عليه السلام إشفاقَهُ من تردد القوم ونكوصهم على الأعقاب، فلقد جربهم من قبل في مواطن كثيرة في خط سير الرحلة الطويل، ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة، أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا، الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكاً، وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته.
لقد جربهم؛ فحُق له أن يشفق، وهو يدعوهم دعوته الأخيرة، فيحشد فيها ألمع الذكريات، وأكبر البشريات، وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات»(1).
وقبل أن يطلب موسى منهم الدخول إلى الأرض المقدسة، كان قد أرسل طليعة ليأتوه بخبر سكان الأرض المقدسة، فلما رجعوا أخبروه بأن المدينة محصنة، وأن فيها رجالًا طوالًا أقوياء، فارتاع بنو إسرائيل لذلك(2)، فلما قال لهم موسى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة: 21)؛ أجابوه إجابة الخانعين الجبناء، إجابة من تجرع الذل وجرى الخور في عروقه مجرى الدماء؛ (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة: 22).
من أهم مفاتيح النصر على اليهود أن يوقن المسلمون بأنهم جبناء يهابون الموت ويحرصون على الحياة
ولأن كل أمة لا تخلو من النبهاء الأتقياء، انبرى رجلان فقط من بين كل هذه الجموع الغفيرة ناصحين لهم قائلين: (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة: 23).
وهنا فاحت رائحة اللؤم والتمرد من طباع الأسباط لما رفضوا نصح الناصحين، ورددوا كلمة الجبن قائلين: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)؛ وهنا بيت القصيد؛ فالصدور كالقدور، وألسنتها مغارفها، وهذه كلمات ثقيلة مدوية، قد جُردت من ثياب الأدب واللباقة، فكشفت ما في صدور الأسباط من لؤم وخسة ونذالة، بل إنه أسلوب مبتذل وضيع لا يليق برجل عادي فضلاً عن كونه رسولاً نبيّاً.
وقد أجاد صاحب «الظلال» حين صور أسلوبهم هذا بقوله: وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون؛ ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون! (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا)؛ هكذا في وقاحة العاجز! فهو ليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال، (إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) لا نريد ملكاً، ولا نريد عزاً، ولا نريد أرض الميعاد ودونها لقاء الجبارين!
هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام، نهاية الجهد الجهيد، والسفر الطويل، واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل!
نعم هذه هي نهاية المطاف نكوصاً عن الأرض المقدسة، وهو معهم على أبوابها، ونكولاً عن ميثاق الله وهو مرتبط معهم بالميثاق فماذا يصنع موسى؟ وبمن يستجير؟ (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {25} قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة 26).
مفتاح النصر على اليهود
من أهم مفاتيح النصر على اليهود أن يوقن المسلمون بأن اليهود جبناء، يهابون الموت ويفرون منه، ويحرصون على الحياة كحرص المجاهدين المسلمين على الموت في سبيل الله.
يقول د. عبدالستار فتح الله: «فاليهودي أحرص الناس جميعاً على حياته، فهو أحرص من المشرك الذي لا يؤمن بحياة بعد موته، وأمنية اليهودي الكبرى أن يعمّر في الأرض أطول مدة ممكنة، لا أن يموت في شيخوخة الإنسان المعتادة، فضلًا عن أن يقتل في شرخ الشباب وزهرة الصبا»(3).
الأسباط جبنوا عن دخول الأرض المقدسة التي كانوا سيعيشون فيها ملوكاً مكرمين ونكصوا فحل بهم العقاب
فالجبن طبع في الأسباط قد ورَّثوه إلى أحفادهم من اليهود، فهم قوم لئام جبناء، قد فضح الله جبنهم وخوفهم من الموت في أكثر من موضع:
الأول: في حرصهم على الحياة بأي شكل وأي ثمن، قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (البقرة: 96)؛ فلشدة جبنهم تراهم يحرصون على الحياة مهما كانت حقيرة أو ذليلة، فلا شهامة عندهم ولا رجولة ولا إباء، يرفضون الموت بكل أشكاله، ويقبلون الحياة بأي لون.
الثاني: عندما ادَّعوا أن الجنة حكر عليهم، فتحداهم القرآن أن يتمنوا الموت لينتقلوا إلى هذه الجنة، فنكصوا وجبنوا؛ قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {94} وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) (البقرة).
الثالث: عندما زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس، فتحداهم القرآن أن يتمنوا الموت، قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {6} وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (الجمعة).
الرابع: عندما فضح القرآن خورهم وجبنهم في ميادين البطولة والرجولة، في ساحات الوغى، عندما تخرس ألسنتهم الطويلة وتخطب السيوف على منابر الرقاب، فتراهم يخافون، بل ترى الجندي منهم دائماً مدججاً بأحدث الأسلحة، مستعملاً أحدث الدبابات والمدرعات ومع ذلك فهو جبان، يفر من حجر صغير في يد طفل فلسطيني بطل.
فشتان بين من تربي على الخنوع ورضع لبان المذلة وتناقل الجبن عبر جيناته الوراثية، والنشمي البطل المسلم الحر الأبيّ، وشتان بين الأسباط والأصحاب!
وإننا أمام مشهد الخزي والعار الذي قام به الأسباط مع نبي الله موسى حين جبنوا عن القتال، ورفضوا دخول الأرض المقدسة قائلين: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا) نتذكر مشهد العز والشجاعة من أجدادنا صحابة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، يوم «بدر» حين استشارهم في قتال النفير الذين جاؤوا لحماية قافلة قريش، فقام المقداد بن عمرو ليقول: امض يا رسول الله لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «فاذهب أنت وربك فقاتلا إننا هاهنا قاعدون»، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إننا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
كتب الله عليهم التيه في مجاهل الصحراء لمدة 40 سنة ليموت ذلك الجيل الجبان من بني إسرائيل
ثم قام سعد بن معاذ ليقول: امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء فسر بنا على بركة الله(4).
وهي أن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتعامل بالظلم والاضطهاد من قبل حكامها تفسد أخلاقها، وتُذَلُ نفوسها، وتعتاد الخنوع للظالمين، فلا يَرِدُ ببالها يوماً أن تدفع طاغية أو تقاوم ظالماً، أو تغير واقعها المشين.
وهذا ما تربى عليه الأسباط، الذين تجرعوا طعم الظلم والاستعباد على أيدي الفراعنة، حتى صار الجبن والخنوع طبيعة فيهم، فلما جد الجد وحان وقت الجهاد، ودعاهم موسى إلى القتال، نكصوا وارتدوا على أدبارهم.
أما الأصحاب فقد تربوا في مهدهم على العزة والأنفة، والشجاعة والقوة، بل لقد كانت الحروب في جاهليتهم تشتعل بينهم وينخرطون في قتال طويل لأجل ناقة، فكيف ستكون تضحيتهم وجهادهم في سبيل الله لأجل جنة عرضها السماوات والأرض؟!
لقد جبن الأسباط عن دخول الأرض المقدسة التي كانوا سيعيشون فيها ملوكاً مكرمين، وخالفوا أوامر الله ورسوله، ونكصوا وارتابوا وترددوا، فحل بهم العقاب، جزاءً وفاقاً: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة: 26)؛ حكم الله عليهم بالتيه، لأنهم جبناء لا يستحقون خلافة هذه الأرض المقدسة، فخلافة الأرض المقدسة تحتاج إلى جيل من الأبطال الصادقين الذين يعرفون قيمتها ويستحقون بركتها.
تاه الأسباط في صحراء سيناء أربعين سنة بين تلالها وكثبانها وشعابها ووديانها محتارين لا يعرفون أين يسيرون ولا أين ينتهي بهم مسيرهم! كتب عليهم التيه في مجاهل الصحراء لمدة أربعين سنة ليموت ذلك الجيل الجبان من بني إسرائيل، فأربعين سنة كافية لموت ذلك الجيل الذي لم تنتفع معه كل وسائل موسى للارتقاء بهم(5).
ثم خلف من بعدهم جيل مميز، تربي على القوة والاعتماد على النفس، وجمع في شخصيته بين حرية البداوة وقسوتها، وعدل الشريعة الموسوية وهدايتها، جيل قادر على أن يعيش حياة الكرماء، في أرض مقدسة باركها رب الأرض والسماء.
______________________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب.
(2) مع الأنبياء، عفيف طباره.
(3) معركة الوجود بين القرآن والتلمود، عبدالستار فتح الله.
(4) قصص الأنبياء، محمود المصري.
(5) القصص القرآني، د. صلاح الخالدي.