يُروى، فيما حكاه ابن عبد ربه (ت 328هـ/ 940م) في «العقد الفريد»، أنه اختصم إلى والي العراق زياد بن أبيه (ت 53هـ/ 674م) بنو راسب وبنو طفاوة في غلام ادّعوه، وأقاموا جميعاً البيّنة عند زياد؛ فأشكل على زيادٍ أمرَه.
فقال سعد الرابية من بني عمرو بن يربوع: أصلح اللَّه الأمير، قد تبيَّن لي في هذا الغلام القضاء؛ ولقد شهدتُ البينة لبني راسب والطفاوة، فولِّني الحُكم بينهما، قال: وما عندك في ذلك؟ قال: أرى أن يُلقى في النهر، فإن رسَب فهو لبني راسب، وإن طفَا فهو لبني الطفاوة، فأخذ زياد نعليه وقام وقد غلبه الضحك، ثم أرسل إليه: إني أنهاك عن المزاح في مجلسي، قال: أصلح اللَّه الأمير، حضرني أمر خفتُ أن أنساه؛ فضحك زياد رغم ما كان يتصف به من شدة ومهابة.
مع ما يبدو في القصة من طرافة، إلا أن الواقع يثبت أن الخصومة في المحاكم الدنيوية يتبارى الخصوم فيها في الإتيان بالبينات والدلائل والحجج التي تجعل القاضي يقف عاجزاً عن الفصل بين الخصمين أمام قوة الأدلة، وقد يخرج حكمه مجانباً للحقيقة بناء على الحكم بظواهر الأدلة، ورغم ما تمتلكه القضية الفلسطينية من أدلة تاريخية شاهدة على إجرام العصابات الصهيونية، فلقد صُوبت العدسات والأنظار تلقاء مدينة لاهاي الهولندية، وانبرت الأقلام والتحليلات تؤمل أن يُتخذ فيها قرار أو حكم ينصف فيها الضحايا الأبرياء والقضية الفلسطينية، ومع ما أحسن المُدعي (جنوب أفريقيا) من إثبات تلك الجرائم، إلا أن الشعوب الإسلامية والعربية أصبحت لا تؤمل في تلك المؤسسات التي تتقاسمها ويسيطر عليها دول النفوذ القوية التي تشارك في حربها على غزة وكل فلسطين، بل تريد أن تبسط نفوذها على كل البلاد العربية والإسلامية.
والمسلم قد يصاب باليأس من تلك الهيئات وإن كان مطالباً بالسعي إليها أخذاً بالأسباب الدنيوية، لكنه مع هذا يطمئن أن الحقوق لا تضيع وإن مر عليها دهور من الزمان، لأنه ثمة محكمة ربانية تتميز عن محكمة العدل الدولية في عدة جوانب:
1- محكمة العدل الدولية مملوكة للأمم المتحدة، ويتولى الفصل فيها عدد من القضاة، الذين يختلفون فيما بينهم، وقد تتحكم فيهم الميول الشخصية أو الضغوط الدولية فيستجيبون لها، أو تدفعهم الأهواء إلى التجاوز والظلم.
أما المحكمة الإلهية فهي غير مملوكة للبشر ولا يتم الفصل فيها بقضاة البشر، فالقاضي فيها واحد وهو الله، وهو العدل الذي لا يظلم أحداً، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ (الأنبياء: 47)، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الحج: 17)، وقال عز وجل: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف: 49).
2- محكمة العدل الدولية تختص بالفصل في النزاعات بين الدول، بناءً على نصوص القانون الدولي، مع ما قد يتأثر به واضعوا هذه القوانين من هوى أو ميل للجنس أو اللون أو الدين.
أما المحكمة الإلهية فإنها تقضي بالحق الذي لا هوى فيه، قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (المائدة: 49)، وقال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾ (غافر: 20)، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ (النور: 25).
3- محكمة العدل الدولية قد تخضع للوساطة أو المحسوبية، بسبب المصالح الدولية.
أما المحكمة الإلهية؛ فلا رشوة فيها ولا محسوبية، قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ (سبأ: 37)، وقال عز وجل: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 88-89).
4- تعتمد محكمة العدل الدولية على أقوال الشهود من الناس، مع ما قد يعترض حال الشهود من التحيز للباطل أو قول الزور.
أما المحكمة الإلهية فإنها تعتمد شهادة الإنسان على نفسه، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النور: 24)، وقال عز وجل: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ (الأنعام: 130)، كما تعتمد على إحضار العمل ومشاهدته، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ (آل عمران: 30)، وقال سبحانه: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ (الكهف: 49)، وقال عز وجل: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية: 29).
5- محكمة العدل الدولية يتأثر أفرادها بالحجج التي يقدمها المحامون، الذين يمتلكون المهارات اللازمة لتقوية الحجج وصياغة الأدلة، رغم كونهم غير محقين في بعض الأحيان، ويكون الحق مع ضعيف لا يملك التوثيق الكامل للحدث أو القدرة على المرافعة، ومن مثل هذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قائلاً: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ من بعض، فأقضي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ له بحق أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قطعة من النار»(1).
وقد وقع هذا حين سرق طعمة ابن أبيرق درعًا من جارٍ له مسلم يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فعندما حملها أخذ الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى دار يهودي يدعى زيد بن السمين فخبأها، فالتُمِسَتِ الدرع عند طُعمة، فقال أصحاب الدرع لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فوجدوا الدرع عنده.
فقال اليهودي دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، أي يدافع عنه، فهَمَّ رسول الله أن يعاقب اليهودي معتقدًا أنه السارق لوجود قرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك فأنزل الله قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء: 105)(2).
أما المحكمة الإلهية فلا تخضع لحجج المحامين وأدلتهم، وإنما تخضع للحق الذي لا ريب فيه، ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ (النساء: 109)، وقال سبحانه: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ (غافر: 18).
6- محكمة العدل الدولية تعتمد في أحكامها على الظاهر، بمعنى أنها تحكم بما ظهر لها من الأحداث والوقائع وما تعلمه من أحكام.
أما المحكمة الإلهية فإنها لا تقضي بالظاهر، بل تقضي بالحقيقة حتى وإن كانت خافية عن جميع الخلق، فالخالق سبحانه وتعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (غافر: 19)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ (آل عمران: 5).
7- محكمة العدل الدولية تتغير فيها الأحكام، وتتبدل فيها الأقوال، وتنعقد عدة مرات، للاستئناف والنقض، بسبب ما قد يكون وقع فيها من تغييب للحقيقة أو ظلم للناس.
أما المحكمة الإلهية، فلا استئناف فيها ولا نقض، ولا تبديل لقول أحد، حيث لا مجال فيها لغياب بعض الملفات أو نسيانها، ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المجادلة: 6)، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ (مريم: 64)، كما لا مجال في المحكمة الإلهية للكذب أو الخداع أو التزوير، قال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (ق: 29)، وقال سبحانه: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ* وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (الزمر: 69-70).
8- محكمة العدل الدولية تفتح الباب أما الاعتذار والاستئناف والتراجع عن الأفعال والأحكام، أما المحكمة الإلهية؛ فلا اعتذار فيها ولا تراجع، ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (غافر: 52)، وقال تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ (الروم: 57).
9- محكمة العدل الدولية قد تحكم غيابيا على بعض الدول دون الرجوع إليهم أو سؤالهم عن أعمالهم.
أما المحكمة الإلهية، فالحكم فيها حضوري بين الخلائق أجمعين، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ (يس: 32)، وقال سبحانه: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ (يس: 53).
10- محكمة العدل الدولية لا تقدر على تنفيذ أحكامها في الدول القوية التي تعترض على قراراتها، وإنما تفرض أحكامها على الدول الضعيفة التي لا تمتلك قوة المعارضة.
أما المحكمة الإلهية فهي قادرة على الحكم وتنفيذه، لأنها تخضع لقوة الله، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ (فاطر: 44).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ نَطَحَتْهَا»(3)، فالمحكمة الإلهية تتسم بالعدل المطلق وتحكم بين جميع الخلائق، وتعطي كل ذي حق حقه.
__________________________
(1) صحيح البخاري (6748).
(2) أسباب النزول: للنيسابوري، ص 181.
(3) صحيح مسلم (2582).