إنّ ظهور الرسالات السماوية في أرض معينة لا يعني بأيّ حال من الأحوال أن تلك الأرض تصبح بالتبعية من حق أتباع ومعتنقي تلك الرسالات؛ لأن الأرض وملكيتها تتبع مقررات التاريخ والتأسيس الموغل في القدم.
ومثال ذلك أننا نرى دولاً وشعوباً إسلامية كثيرة على وجه المعمورة من غير العرب، فهل قال أحدُهم يوماً: إنّ جزيرة العرب من حقنا ما دمنا قد اعتنقنا الإسلام؟ فهل قالت إندونيسيا مثلاً أو باكستان: من حقنا أن نقيم دولة في الجزيرة العربية لأننا اعتنقنا الإسلام؟
هذه هي الحقيقة الناصعة التي يؤكدها التاريخ ومستنداته ونقوشه وآثاره، وهذه هي نقطة الضعف البارزة في المشروع الصّهيوني الاستدماري الغاصب للأرض والحق، التي ينبغي التذكير بها على الدوام، ووضعها أمام أعين الأشهاد والقراء في جميع قارات المعمورة.
ولعلّ وجود اليهود في الشرق العربي قبل مجيء الإسلام وخلال العهود الإسلامية المتعاقبة يثير لدى بعض الناس حالة من اللبس أو الغموض، لكنني أسارع إلى توضيح هذه المسألة بالقول: إنّ يهود المشرق مواطنون من أهل الذمة عاشوا معزّزين على مدار التاريخ الإسلامي، بل لم يتم تكريمهم وحمايتهم سوى في ظلال الإسلام وحُكم الدولة الإسلامية، وقد انتبه إلى هذه المسألة المهمة أحد أكبر مؤرخي الحضارات هو المؤرخ والمستشرق السويسري الألماني آدم متز، وذلك في كتابه الرائع «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري»، حيث ذكر بأنّ الحضارة الإسلامية هي الوحيدة عبر التاريخ التي كرّمت ومنحت مناصب عليا في الدولة بما في ذلك منصب الوزارة لغير المسلمين -كاليهود والنصارى- وذلك في واقع مؤسسات الدول التي أقامتها في المشرق العربي والأندلس.
الدولة الصهيونية.. وأوروبا
أما دولة الاحتلال الصهيوني الهمجية، فهي مجموعة عصابات تمّ تأليفُها وجمعُها من جنسيات غربية مختلفة، فهي في جوهرها مشروع غربي صليبي في دار العروبة والإسلام، وهذا المشروع له أهداف وغايات بعضها ظاهر وبعضها الآخر خفي، من بينها: إضعاف الجسد العربي والإسلامي بتداعيات وآثار هذه الغدة السرطانية المسماة «إسرائيل»، والحيلولة دون تحقيق نهضته العلمية والسياسية واستئناف دوره الحضاري الرائد، ومنها أيضاً ضمان عدم عودة يهود الشتات الأوروبي إلى قارة أوربا مرة أخرى، نظراً لما أحدثوا من أحداث وما حاكوا من مؤامرات، تسببت في قلاقل ومشكلات كان لها أثرها السلبي الكبير على تماسك المجتمعات الأوربية.
ويحسن أن أكتفي هنا بالإشارة إلى أمثلة قليلة، منها أحداث مدينة أوديسا في روسيا القيصرية بين عامي 1881 و1884م، وقبل ذلك أيضاً؛ أي مع بدايات القرن التاسع عشر، ودور ألكسندر إسرائيل في تأجيجها، وهو يهودي روســي يُدعــى بارفوس، زعزع روسيا القيصرية وسعى في صياغة زعماء معادين لروسيا القيصرية منهم لينين؛ مما أدى إلى وقوع رد فعل عنيف تمثل في مذابح لليهود قبل نهاية الحكم القيصري على يد الثورة البلشفية، ومنها أيضاً قضية اليهودي الفرنسي دريفوس الذي حُكم عليه بالسجن والأشغال الشاقة عام 1894م، وما نتج عن ذلك من أحداث وتداعيات ساهمت في وقوع اضطرابات داخل التراب الفرنسي.
ثم الأحداث المسماة «الهولوكوست»؛ أي الكلّ محروق، أو المحرقة الشاملة، التي نصبتها ألمانيا النازية لليهود خلال فترة القائد النازي أدولف هتلر، الذي قدّر مدى خطر اليهود على أوروبا عموماً وعلى ألمانيا خصوصاً، حيث بلغ عددهم يومئذ في عموم قارة أوروبا قرابة 9 ملايين -كما تشير بعض أوعية المعلومات- فقررت السلطة النازية التخلّص من الثلثين أي 6 ملايين، وإن كان التطبيق الفعلي لهذه المقررات النازية يشير إلى عدد أقل بكثير مما تمّ التفكير في إنجازه، لكن الحركة الصهيونية عرفت بدهائها كيف تستثمر في هذا الحدث المأساوي، وكيف تستعطف الشعوب الغربية من أجل تعويضها والوقوف إلى جانبها، وهذا ما يُفسر جانباً مهماً من فهم الموقف الرسمي الأوروبي إزاء الدولة الصهيونية المحتلة لأرض فلسطين.
فكلّ هذه الأحداث، وأخرى كثيرة طبعاً لا تتسع لها مساحة هذا المقال، جعلت دول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية تعضّد وتدعم مشروعاً صليبياً يتمثل في إقامة كيان صهيوني على أرض فلسطين؛ لأنه يحقق لهم العديد من الأهداف الاستعمارية المعلنة وغير المعلنة.
وقد استمرت جهود دعم ورعاية هذا المشروع بكافة الوسائل، لكن الفلسطينيين لم يستكينوا يوماً ولم تضعف إرادتهم أمام الغطرسة الصليبية والصلف الصهيوني، بل قاوموا هذا المشروع الاحتلالي منذ بداية تنفيذه عام 1948م، واستمرّت المواجهات سجالاً على مدى ثلاثة أرباع القرن (75 عاماً) بصور وأشكال شتى، إلى أن جاء الحدث الكبير يوم 7 أكتوبر 2023م «طوفان الأقصى» الذي مرّغ أنف الاحتلال الصهيوني في الرّغام وأسقط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وما نتج عن ذلك الحدث الهائل الكبير من تداعيات غير مسبوقة في كلّ مراحل أهوال التاريخ وأحداثه الجسام؛ الأمر الذي أدى إلى تصدّع المشروع الصليبي المتمثل في تثبيت دولة الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين المباركة.
إنّ هذا الحدث الضخم في تاريخ القضية الفلسطينية العادلة أدى إلى حدوث تغيّرات مقدورة في المواقف والتوجّهات، بما في ذلك مواقف بعض الدول الأوروبية التي صنعت المشروع الصهيوني، وخير مثال على ذلك موقف إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا والنرويج والسويد وروسيا، وما تزال القائمة مفتوحة، ثم تغيّر اللهجة في محور الدول الراديكالية؛ أي التي تدعم الكيان الصهيوني بتطرف يفوق الخيال التي تمثلها على نحو أخص بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وذلك بفعل ضغط الشعوب الحرة والأجيال الجديدة في أوروبا وأمريكا التي بدأت تفهم حقيقة القضية الفلسطينية لأول مرة في تاريخها منذ بدء الاحتلال فعلياً عام 1948م.
إنّ صمود المقاومة في غزة وأهل فلسطين عامة جهاد مشروع ومَدد رباني لا يُفهم بالحسابات العقلية المحضة، بل معجزة سوف تغير التاريخ وتُعيد الحق إلى أصحابه إن شاء الله تعالى، وأولى علامات هذه البشريات اليقظة التي بدأت تعمّ أقطار المعمورة، والإحساس العالمي المتنامي بعدالة هذه القضية، ولا شكّ أنّ هذا المتغيّر سوف يكون له ما بعده، ويستحيل أن يكون العالم بعد حدث السابع من أكتوبر، كما كان من قبله، وتلك إرادة الله النافذة في خلقه، ولا غالب إلا الله.