من الصفات المقززة والبغيضة إلى النفس السوية أن يكون الرجل شحيحاً في طبعه، فيدفع ذويه للنفور منه وكراهية معاشرته، بل يصير ثقيلاً عليهم يودون لو لم يعرفونه يوماً.
الشحيح مريض النفس، خائف دوماً على غده ورزقه، ينشغل الناس بحياتهم، وينشغل هو بتأجيل تلك الحياة ليدخر لمجرد الادخار، يؤجل كل أمنياته وواجباته ليبلغ ما يريد، وهو أبداً لا يبلغها، فكلما وصل لحد معين في الادخار أراد المزيد؛ فيعيش محروماً، ويموت مقهوراً يشيعه من حوله غير آسفين عليه!
وهناك فرق بين البخل والشح؛ فالبخل أن يبخل الإنسان على غيره لكنه كريم على نفسه، وأما الشح فيبخل الإنسان على نفسه وعلى غيره.
والبخل معناه أيضًا مشقة الإعطاء، ويتجاوز الحد بضنّ الشخص بالذي لا يضر بذله، ولا ينفع منعه، لأنه لا يريد أن يعطي، وهذا البخل والشح يكون في نفس البخيل لأنه أولًا قد بخل على نفسه، ومن بخل على نفسه لا يجود على الناس.
ولكن منازل العطاء والبخل تختلف، فهناك 3 مراحل للعطاء: رجل يعطي من غير سؤال، ورجل يعطي بسؤال فيه أسباب مثيرة ومهيجة للعاطفة، ورجل يعطي بمجرد السؤال.
وأما الشح فهو أفظع درجة للبخل، وهو أن يبخل الرجل على من يسأله مسألة مسببة بإحداث تهييج العواطف، ومع هذا لا يرق قلبه، والبخيل هو الذي انصرف عن العامل الذي جاء يأخذ الصدقة وتولى وأعرض عنه(1).
البخل في القرآن
ذم القرآن الكريم البخل بمفرداته في أكثر من آية، مبيناً ما ينتظر البخيل من عنت في الدنيا، وعذاب مهين في الآخرة، ومن هذه العواقب ما يلي:
– العسرى للبخيل؛ (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى {10} وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل)، فأما من بخل بماله، واستغنى عن ربه، وكذب بالجنة، أو بلا إله إلا الله فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى؛ أي يعسر الله عليه أسباب الخير والصلاح ولا ينفعه ماله إذا هلك وهو في نار جهنم.
– البخل شر وليس خيرًا؛ يقول الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران: 180)، حيث يجعل الله للبخيل مما بخل به طوقًا حول عنقه، فكلما منع البخيل نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلًا.
– البخلاء جعل الله عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إلى يوم لقائه؛ (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) (التوبة)؛ أي فلما رزقهم الله -أي المنافقين- بخلوا به وتولوا وهم معرضون، بخلوا في الإنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله(2).
البخل في السُّنة
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كريماً، وكان أجود ما يكون في رمضان، أو كان في جوده كالريح المرسلة، ولم يتصف أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبخل، وهي شيمة كان ينفر منها العرب من باب المروءة وتمام الرجولة قبل الإسلام، حتى إذا تنزل القرآن فصار مكرمة وجزءاً من إيمان الرجل، واهتمت السيرة النبوية بالتنفير من البخل والبخلاء لتنقية النفس المسلمة من كل ما يشوهها من صفات جاهلية لا يصح أن تتصف بها.
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» (رواه البخاري)
وفي صحيح البخاري قبل حجة الوداع في قصة البحرين حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده ليعطيه من مال البحرين، فلم يخرج حتى مات، فذكر لأبي بكر ثلاثاً فلم يرد عليه، فقال: إما أن تعطيني وإما أن تبخل عني، فقال: قلت: تبخل عني، وأي داء أدوأ من البخل؟ قالها ثلاثاً ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك. (رواه أحمد ومسلم)، وقال عمر رضي الله عنه: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقلت: يا رسول الله، لغير هؤلاء أحق به منهم، قال: «اللهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل»، وقال أنس: «ما سئل رسول الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه» (رواه أحمد ومسلم).
وروى أحمد في المسند عن مروان بن معاوية الفزاري عن هلال بن سويد أبي المعلى عن أنس قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوائر ثلاث، فأكل طائراً وأعطى خادمه طائرين، فردهما عليه من الغد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أنهك أن ترفع شيئاً لغد؟ إن الله يأتي برزق كل غد».
ويحذر النبي عليه الصلاة والسلام من كون البخل هلكة لصاحبه ولمجتمعه فيقول: «إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» (أخرجه مسلم).
وجاء في الأثر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لما خلق الله جنة عدن قال لها: تزيني فتزينت، ثم قال لها: أظهري انهيارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التسنيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنهار العسل واللبن، ثم قال لها: أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك؛ فأظهرت، فنظر إليها فقال: تكلمي؛ فقالت: طوبي لمن دخلني! فقال الله تعالى: وعزتي لا أسكنك بخيلاً».
وقال كعب: ما من صباح إلا وقد وكل به ملكان يناديان: «اللهم عجل لممسك تلفاً وعجل لمنفق تلفاً»، وفي الأثر لقي يحيي بن زكريا عليهما السلام إبليس في صورته فقال له: «يا إبليس، أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك»، قال: أحب الناس إليَّ المؤمن البخيل، وأبغض الناس إليَّ الفاسق السخي، قال له: «لم؟!»، قال: لأن البخيل قد كفاني بخله، والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله، ثم ولَّى وهو يقول: لولا أنك يحيى لما أخبرتك.
ومدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صوامة قوامة، إلا أن فيها بخلاً، قال: «فما خيرها إذن؟!».
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه من البخل فقال: «اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ البُخلِ، وأعوذُ بِكَ منَ الجُبنِ وأعوذُ بِكَ أن أَرَدَّ إلى أرذلِ العمرِ»، وقال: «واللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والبُخْلِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ» (السيوطي في الجامع الكبير).
آثار البخل والشح على الفرد والمجتمع
ككافة الأعمال المكروهة والمحرمة في الإسلام حين الإتيان بها لها آثار قد تكون مدمرة على الفرد والمجتمع:
أولاً: على الفرد:
فهو ينزع منه البركة في الرزق، ويتعرض كل يوم لدعاء الملك عليه بإتلاف ماله إذا أمسك عن الإنفاق في أوجه الخير، ثم هو خائف دوماً من نقص المال، خائف على غده ورزقه وصحته، لا يعرف الطمأنينة التي يعيشها المؤمنون الواثقون بالله، وأن الرزق والأجل بيده وحده سبحانه، يضعف إيمان الفرد ويختل لسوء ظنه بالله في أنه يرزقه ويرزق ذويه، وأما عائلته فتعيش الحرمان والشعور بالدونية عن غيرهم من الناس من حولهم، يحنقون على أبيهم الشحيح وتتفكك الروابط الأسرية والمودة حين تنتهي الرعاية المطلوبة منه بحجة أنه يدخر من أجلهم، ثم حرمانه من أجر قيم البر والكرم والإنفاق في مرضاة الله عز وجل.
ثانياً: على المستوى الاجتماعي:
تنتشر بالمجتمع الذي يدب فيها داء الشح ولا حق فيها للفقير على الغني أمراض اجتماعية خطيرة، مثل الحقد والحسد والبغضاء حتى من أقرب الناس إليه لرغبتهم في الاستمتاع بالحياة كغيرهم ممن حولهم، بالإضافة إلى السرقات لحاجة الناس الشديدة وهم لا يجدون منفذاً من زكاة أو صدقات تكفي حاجاتهم وتسد جوعهم وتنشر قيمة التكافل بينهم.
وأخيراً، فإن تاريخ الأمة حافل بعظماء حفظت أسماؤهم في ذاكرة الأجيال بما حوت أنفسهم من جود النفس وكرم الطبع والتخلي عن تلك النقائص من صفات البخل والشح التي تهبط بصاحبها من مقام السيادة والريادة إلى مقام الخسة والدناءة، ومن شاء فليقرأ في الكرم الطائي ليتلمس عادة الأسياد ويحقق الأمجاد، وعلى النقيض فليطالع كتاب «البخلاء» ففيه من الأوصاف ما تجعل نفس الحر بينها وبين تلك الصفة بعد وجفاء.
____________________________
(1) موقع طريق الإسلام في ذم البخل في القرآن والسُّنة، 13 مارس 2017م.
(2) المرجع السابق.