إن وعي الأمة القرآني بطبيعتها وحقيقة تشييدها؛ ينتج عنه بالضرورة استعادة الأمة للوعي الشامل بقضاياها الحقيقية والإستراتيجية، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، لقد اختفى تجسيد هذا المفهوم الإلهي للأمة عدة قرون، وبرز بدلًا منه الصراع الداخلي الذي كان ظاهره مذهبيًا، أو غُذْيَّ بالمذهبية، وجاءت هذه التغذية إما عن جهل داخلي من بعض أفراد الأمة، أو تعمد خارجي من أجل إضعاف الأمة وتفتيت وحدتها، وجعلها فرقاً وشيعاً متناحرة، فذهب كثير من ريحها وقويَّ عدوها بضعفها الذاتي لا بقوته.
لكن تأتي أقدار الأمة بما لا يشتهي أعداؤها، يأتي «طوفان الأقصى» ليضع أقدامًا ثابتة وواسعة نحو استعادة وتشييد مفهوم «الأمة» في صورة جديدة، وينسف ذرائع الإضعاف خصوصًا المذهبية، حيث تضافرت مذاهب في المناصرة والصمود والمقاومة من السُّنة إلى الشيعة والزيدية في صورة تعيد لحمة الأمة وهيأتها وهيبتها، واختلطت دماء شهداء المقاومة على خط «القدس – غزة»، وكان عنوان هذا الخط «الأمة الواحدة»، فلم يكن لأي جماعات المقاومة على هذا الطريق (القدس – غزة) مغانم في السلطة والرياسة أو الثروة والغنائم، فالكل على دراية ووعي بشراسة المعركة وكثرة الأعداء وكثرة الخاذلين وقلة الناصرين، ولكنهم كانوا على قدر كبير من المسؤولية الإيمانية والإسلامية التي خطها القرآن الكريم؛ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10)، ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ (الأنفال: 72).
استعاد «طوفان الأقصى» قيم الأمة كما خطها القرآن الكريم: وحدة القِبلة، ووحدة المَقصد، ووحدة الطريق، ووحدة الرسالة، بما يمكن معه القول: إن «طوفان الأقصى» أعاد اكتشاف الأمة من جديد في مواجهة تحدياتها والأخطار التي تهدد مقدساتها وطموحها الحضاري، كما أظهر أن هناك قدرة وفعلاً وعملاً جاداً في ظل الظروف غير المواتية، بل المعاكسة، ثم قدر لهذا الفعل النجاح بكل اقتدار وانبهار، يمكن معه القول أيضاً: إنه قدم «نمذجة» للفعل الحضاري للأمة، يتطلب أن تنتقل الأمة إلى محاكاته في مجالات الفعل الحضاري المختلفة العلمية والثقافية والاجتماعية.
لقد قدمت المقاومة نموذجًا حضاريًا في مواجهة «حضارة السلاح» وحاملة لواء «تجارة السلاح» في العالم المعاصر الولايات المتحدة الأمريكية، فصنعت المقاومة سلاحها وطورته وقامت بالتدريب الذاتي التكاملي دون الحاجة إلى خبراء أمريكيين أو أوروبيين؛ أي أن الحضارة تلد منتجاتها وآلاتها وعدتها وعدادها، وهذه كلها لا يمكن استيرادها، وإن تم استيراداها تتحول إلى أفكار انتقامية، ومشهد الأحداث كلها برهن ودلل على صدق تلك المقولة الحضارية.
وعلى الرغم من الحصار المفروض والاحتلال الأمريكي القائم في المنطقة وانتشاره على طوق المقاومة جغرافيًا، فإن «طوفان الأقصى» حوَّل عناصر الوحدة والتناغم والانسجام والعضوية -كخصائص لأمة التوحيد- إلى عامل فاعل في تطوير منظومة العمل المقاوم الذي ظهر في «طوفان الأقصى» الذي اعتبره بعض المحللين والخبراء أنه إعجاز عسكري سوف يدرس في المعاهد والكليات العسكرية العالمية إن استطاعوا فك شفرته الحضارية والقرآنية.
إن مبدأ الاعتصام ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103)، مبدأ حاسم في حركة الأمة وفي حيويتها وانطلاقها من وحل التخلف والتردي، وإن النموذج الذي قدمته «طوفان الأقصى» لم يكن فقط على طريق القدس، ولكنه كذلك كان على طريق انطلاق الأمة ونفرتها مما ثقلت به، كانت «طوفان الأقصى» نموذجًا تراه الأجيال المتتابعة بدلًا من سرديات صراعات متوهمة بثها الأعداء تارة لإحداث الشقاق بين أجنحة الأمة ومذاهبها، وتارة بُعث من جهل بعض أبنائها، ولكن خارطة المقاومة في «طوفان الأقصى» أَجْلَت الحقيقة كاملة، وكشفت وهن وتهافت أصل هذه الصراعات ومرتكزها ومبعثها.
في «طوفان الأقصى» استعادت الأمة مبدأ عضوية الأمة «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (أخرجه البخاري، 6026)، فالمؤمن بعضُ المؤمن، وأن وَحدة المؤمن/الإيمان إنما يظهر في إطار الأمة الجامع والناظم الأكبر وهو الإسلام الشامل.
إن استعادة وحدة الأمة يعني فشل كل مخططات الأعداء في الهيمنة على مقدراتها وعلى ثرواتها وعلى طموحها الحضاري، لقد كانت الأمة في أشد الحاجة إلى نموذجٍ فاعل يعمل في ظل الظروف غير المواتية، أي في جانب منه: يعمل تحت ضغط التسلط الغربي في المنطقة العربية، ومن جانب آخر يعمل تحت ضغط قلة الإمكانات والقدرات المادية ومحدوديتها، وقد ظهر هذا النموذج في «طوفان الأقصى» الذي عكس أن الضغوط الخارجية وقلة الإمكانات، بل المواجهة السياسية والإعلامية والحصار الاقتصادي، كل تلك العوامل لم تكن سببًا في الانزواء والتخلي عن الدور والواجب الذي حملته المقاومة على عاتقها، بل غرست التحدي والإصرار مع وقود الإيمان الثابت في قلوب المقاومين النابع من الرسالة التي يحملونها وهي رسالة القرآن العظيم.
لقد فرضت المقاومة نفسها على العالم كممثل عن مظلومية المستضعفين في العالم المعاصر، الذين اكتووا بنيران الغرب وأمريكا انتصارًا للنظام الرأسمالي الذي يحميه دولة الاحتلال الصهيوني في الشرق، والذي خطط لإيجادها الصهيونية العالمية وخطت لها خططها، لذلك فلا عجب أن نرى أكثر النظم في العالم إيلامًا من فساد هذا النظام هم أكثر المؤيدين للمقاومة وخطها في المواجهة الغربية الأمريكية كما في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
إن خط المقاومة الذي تجمع حول «طوفان الأقصى» أفشل مخططات عديدة للغرب وحلفائه -كـ«صفقة القرن» ومشروع التطبيع وتهويد القدس والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى- لكنه في الوقت ذاته أفشل أكبر مخططاتها في تمزيق وحدة الأمة، لقد غرس خط المقاومة نواة كبرى، بل شجرة طيبة عظيمة تجتمع حولها الأمة من جديد، وتطرد من داخلها المنافقين والمرجفين، وتُخلِص لله تعالى في قولها وفعلها، وتعي أن الذي بثَّ الفرقة في الأمة لا هو شيعي ولا سُني ولا زيدي، ولكنه عدو منافق عليم النفاق، مهد للغرب وأمريكا أن يهيمنوا على مقدرات الأمة ويستنزفوا ثرواتها ويحطموا حاضرها ويغيبوا مستقبلها، فواجه كل ذلك في «طوفان الأقصى» فشلًا ذريعًا، وجاءت أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ بإذن الله تعالى.