إذا بحثنا عن أهم وأغلى ما يمكن أن تمتلكه الأمم والحضارات في سعيها نحو النهضة، لم نجد ما هو أكثر قيمة من إنسان تلقى تربية ذات جودة عالية، جعلت منه رقماً مؤثراً في معادلة الإصلاح والتغيير، بينما يبقى العدد الضخم من البشر مجرد غثاء سيل لا يترك أثراً ولا ينهض بأمة.
لذلك، كان منهاج التربية السليم واحداً من أهم الأدوات الإستراتيجية التي يمكنها أن تصنع الأمم والحضارات، وهذا المنهاج التربوي لا بد له من قيم مركزية حاكمة، أو ما يمكن أن نطلق عليه «أمهات القيم»، وله أدوات للعمل، وأيضاً يواجه الكثير من التحديات والعقبات، لكنه يحقق في حال تم تفعيله نقلة حضارية تنقل الأمة من طور حضاري لطور آخر مختلف تماماً.
منهاج التربية السليم من أهم الأدوات الإستراتيجية التي تصنع الأمم والحضارات ولا بد له من قيم مركزية حاكمة
تبدو قيمة «الرشد» كقيمة مفتاحية لكثير من أمهات القيم التي يحتاجها المربي وهو يتطلع لبناء جيل يتمثل المقاصد العليا لدينه وشريعته، فالرشد الذي نعنيه يستوعب كل الاستعمالات اللغوية التي يشتملها بما فيها من علم وعمل ونفع وخير وهدى.
والرشد يشتمل أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ فنحن لن ننهض إلا بقدرتنا على تحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة؛ (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء: 6)، فالرشد المقصود هنا هو قدرة الشاب البالغ على إدارة أمواله بطريقة سليمة تبتعد كلية عن السفه؛ وهذا لن يتحقق إلا بتربية عقلية ونفسية مرتبطة بالنشاط الاقتصادي الذي هو محور أساسي للحياة الدنيا.
لكن، في الفلسفة الإسلامية يبدو الحد الفاصل بين الدنيا والآخرة متداخلاً؛ فكل نشاط يصنف على أنه نشاط دنيوي يمكن بوجود النية الصالحة أن يتحول لعمل أخروي، وفي هذا السياق يمكننا أن نتفهم دعاء الفتية في الكهف؛ (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف: 10).
«الرشد» قيمة مفتاحية لبناء جيل يتمثل المقاصد العليا لدينه وشريعته ويستوعب العلم والعمل والنفع والخير والهدى
فالرشاد المقصود هنا يشتمل أمور الدنيا والآخرة، فالثبات في وجه الفتنة رشد، والقدرة على تدبير أمور المعاش في ذلك الكهف رشد، والقدرة النفسية على تحمل الاغتراب والبعد عن الأهل رشد، وكلها أمور مترابطة.
ومن المعاني المهمة التي تتضمنها قيمة الرشد معنى النفع بالمعنى الواسع لا بالمعنى البراجماتي؛ (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً) (الجن: 21).
ولا شك أن إدراك النفع الحقيقي مسألة بحاجة لجهد تربوي ليس بالهين، خاصة أن الفلسفة النفعية وممارستها التطبيقية على مستوى الأمم والأفراد أساءت لمعنى النفع وقامت بتحريفه، فالنفع الحقيقي مرتبط بتحقيق الخيرية؛ (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (الجن: 10)، والنفع الحقيقي مرتبط بتحقيق العدل والعدالة؛ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجن: 14).
ولعل المعنى الواسع للرشد الذي يتضمن كل هذه المعاني هو الهدى وإصابة الحق والصواب في كل أمر؛ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256).
لكن السؤال بالغ الأهمية: كيف نربي أولادنا على الرشد؟ وما الأدوات والتقنيات التي تساعدنا على ذلك؟ وكيف نواجه التحديات والصعوبات التي تعترض هذا المنهاج التربوي؟
«الرشد الذاتي» الضمانة الأولى لتقبل الأبناء ما نطرحه عليهم من أفكار فالقدوة أعمق صور التربية
خطوات منهجية
لا شك أن تحقيق أقصى قدر ممكن من الرشد الذاتي هو الضمانة الأولى والأساسية لتقبل الأبناء ما يتم طرحه عليهم من أفكار، حيث تبقى التربية بالقدوة والأسوة الحسنة أهم وأعمق صور التربية، وإلا فإن التناقض القيمي والمفارقة بين الكلام والسلوك سيجعل أي جهد لترشيد سلوك الأبناء مجرد هدر للوقت والجهد، مع ملاحظة أننا كبشر لا بد لنا من سقطات ينبغي تقبلها والتعامل معها، فالإفراط في المثالية قد يكون أكبر عوائق الحركة، وينبغي أن نعلم الأبناء منذ نعومة أظفارهم أن الخطأ وارد جداً بحكم الطبيعة البشرية؛ حيث لا يقعون في فخ الصدمة عندما يخطئ المربي، ولا يستبد بهم اليأس عندما يقعون هم في الخطأ.
يأتي الحوار وإقامة علاقة دافئة مع الأبناء مليئة بالتفاصيل الصغيرة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما اهتم بسؤال طفل صغير عن عصفوره، أو كما يصفها أنس رضي الله عنه بالمخالطة، فهي البوابة الذهبية لفتح القلوب لتقبّل النصيحة والتوجيه، على النقيض من التباعد والجفاء العاطفي والتعالي، أو السخرية أو حتى كثرة النقد، فهي تحول بين الابن والاستجابة حتى لو بدا ظاهرياً في حالة من الاقتناع، إلا أن الحقيقة أنه اقتناع زائف أو في أحسن الأحوال اقتناع لا يتجاوز قشور العقل ولم يستقر في القلب.
الحوار وإقامة علاقة دافئة مع الأبناء مليئة بالتفاصيل الصغيرة البوابة الذهبية لفتح القلوب لتقبّل النصيحة والتوجيه
ويرتبط بالحوار القدرة على إقامة نقاش يراعي المرحلة العمرية للأبناء، ويقوم على الاقتناع الحر دون خطوط حمراء وترك مساحة للابن (خاصة في مرحلة المراهقة) للبحث والتجارب حتى يستطيع الوصول بنفسه للإيمان بمعاني الرشد، مع ملاحظة التوجيه الخفي للفت نظره وجذب اهتمامه، حتى يصل هو نفسه لمرحلة التقبل والاستجابة والاقتناع وصولاً لمرحلة التطبع بها والدفاع عنها.
تحديات صعبة
على أن هناك تحديات حقيقية صعبة تواجه المربي في رحلته لصناعة ابن يستلهم قيم ومعاني الرشد، ويستطيع نقد المسلَّمات التي أرستها الفلسفة الغربية المادية على نمط وإيقاع الحياة المعاصرة؛ حيث الصراع القيمي بين الحضارة الغربية بما تحمله من فلسفة وتوجهات، وما تحمله من زخم الحداثة وبريق العصرنة، والأهم من ذلك شعورها بالتفوق المادي.. وحضارتنا التي هي في لحظة دقيقة من لحظات الضعف التاريخي والجمود الفكري والمفارقة القيمية بين الأفكار والممارسات، فانعكس ذلك كله على الأبناء الذين ينشؤون منذ طفولتهم المبكرة على مسلسلات الكارتون الغربية المشحونة بالأفكار والقيم وحتى مراهقتهم حيث عصر السماوات المفتوحة والغزو الثقافي والفكري الممنهج.
الصراع القيمي بين الحضارة الغربية بما تحمله من بريق العصرنة وحضارتنا التي تشهد لحظات ضعف تاريخي.. أهم التحديات التي تواجه المربي
كذلك حيث أسئلة التخلف والنهضة التي يطرحها فريق المنبهرين بالحضارة الغربية حتى وصل الصراع القيمي لاضطراب النسق القيمي كله، فأصبحت المشكلة مجتمعية عامة، وأصبح المجتمع المضطرب بما يحمله من فلسفة وتوجهات فسيفساء من النفعية بمعناها الضيق، والانبهار بالآخر المتفوق، مع مشاعر عميقة تقترب من اليأس من الإصلاح والنهضة، مع بعض العبادات والشعائر الدينية الجزئية، فأصبح هذا المجتمع المضطرب عامل ضغط شديد على المربي.
فإذا أضفنا لذلك الأجواء السياسية والاقتصادية والمشكلات الحياتية الخاصة، أدركنا إلى أي حد تعد العملية التربوية لصناعة أبناء يتمتعون بالرشد حالة حقيقية من الجهاد في سبيل الله للخروج من وضعية الاستضعاف إلى نموذج التمكين.