ينتظر المسلمون في كل بقاع الأرض شهر رمضان من العام للعام، فهو لدى الكثير منهم فرصة عظيمة لا تعوض للتوبة والعودة لله والإكثار من العبادة وفعل الخيرات، بغية أن يتخففوا من الذنوب، وأن ينالوا رضا الرحمن، ويكونوا من عتقاء النار، وهي الأهداف السامية التي تستوجب إعداداً واستعداداً وتأهيلاً نفسياً عظيماً، وإلا فات الشهر وانقضت لياليه وكأنها لم تكن، فيكون أولئك ممن شملهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له».
ولعل خسران الكثير من هذه الفئة الفوز في شهر رمضان ليس لافتقادهم الرغبة في الفوز به، فجل النفوس تتمنى المغفرة والرحمة والعتق، ولكن شتان بين من اقتصرت أمانيه على القول ومن صدّق قوله عمله طيلة رحلة إيمانية تمتد لنحو ثلاثين يوماً دون كلل أو ملل، بل بروح مقبلة على الله صابرة ومثابرة على عبادته والتقرب منه حريصة على أن تكون كل لحظة منه في رضا الله وطاعته.
الاستعداد النبوي
ولا شك أن الرحلة الإيمانية الصحيحة تبدأ من لحظة الاستقبال، وهو ما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على القيام به وتعليمه لصحابته الكرام، فبقدر ما كان يحث النبي الكريم صحابته على أن يستقبلوا هذا الشهر العظيم بفرح وسرور بالغين، بقدر ما كان يحثهم على بذل ما بوسعهم من تهيئة النفوس وتصفية القلوب، فكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام في شهر شعبان داعياً الله تعالى أن يبلغه شهر رمضان فيردد دعاءه: «اللهم بلغنا رمضان»، وهو ما اقتدى به الصحابة ومن بعدهم السلف الصالح إذ كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.
تفريغ المضمون
لعل السياق السابق يخبرنا إلى أي حد كان يمثل شهر رمضان محطة مهمة في حياة المؤمن؛ الأمر الذي جعله في بؤرة اهتمام البعض ممن غلبهم شيطانهم، أو من هؤلاء الذين أرادوا بالأمة الشر والسوء فاستغلوا لحظات ضعفها وتنازع أفكار أبنائها وتعدد ثقافات شعوبها؛ فسعوا جاهدين إلى تفريغ الشهر الكريم من مضمونه، فعملوا طيلة عقود وقرون على أن يحولوه من شهر للطاعة والعبادة إلى مجرد شهر احتفائي ظاهره فرحة الاستقبال وجهد الاستعداد، وباطنه تضييع الأوقات والانسياق خلف الأهواء والملذات.
من الطاعة للفلكلور
ربما تحدثنا بعض الآثار على أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبر بمظاهر مادية عن احتفائه بقدوم الشهر الكريم، وذلك بإنارة المساجد بالقناديل، فكان أول من أدخل إنارة المساجد وجمع الناس على صلاة التراويح، وهو ما استحسنه الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ يروى أنه خرج في أول ليلة من رمضان والقناديل تزهر وكتاب الله يتلى في المساجد فقال: «نوَّر الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نورت مساجد الله بالقرآن».
وعلى الرغم من أن هذه المظاهر التي سنَّ لها ابن الخطاب رضي الله عنه كانت تهدف إلى جمع المؤمنين على الطاعة وتيسيرها عليهم، فإن ما ابتدعه المبتدعون مع مرور الزمن بعد ذلك لاستقبال رمضان وقضاء لياليه كان أبعد في أغلبه عما يجب أن يكون عليه المسلمون، بل وكان الأسوأ؛ أن أضحت هذه المظاهر الاحتفائية هي الأصل ليتحول شهر رمضان المبارك في معظم بلادنا العربية والإسلامية من شهر عبادة إلى فلكلور شعبي يتضمن مجموعة من العادات والتقاليد.
الأسرة وضبط السياق
لنتفق أولاً على أن الإسلام ليس ديناً يناكف أو ينتقص من الثقافات أو يرفض مظاهر السعادة والاحتفالات، بل على العكس تماماً فقد أبدى احتراماً كبيراً للاختلافات بين الشعوب، مقدراً ومتفهماً لعاداتها وتقاليدها ومقراً للكثير منها، شريطة ألا تخرج عن حدود الحلال، وألا تختلط العادة بالعبادة، فالعبادات توقيفية يجب أن يلتزم المسلم في تأديتها بالاتباع وإلا بطلت وضاع أجرها، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرابهم، إذ دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعْهُمْ يَا عُمَر».
لكننا يجب أن نعترف بأن الكثير من هذه العادات تسرب إلى ديننا الحنيف شيئاً فشيئاً لتصبح مع طول العهد لدى البعض وكأنها جزء أصيل من الدين حتى ولو على مستوى ضرورة الالتزام بها في اللاوعي الجمعي، ومن ثم فإنه يجب في المقابل أن نعترف أيضاً بأنه ليس من الحكمة الاستخفاف بما تم ترسيخه عبر عقود، بل قرون طويلة من هذه الصور الفلكلورية للشهر الكريم في نفوس قطاعات جماهيرية عريضة ما يلزمنا أن نبحث بجدية عن طريقة مثلى للتعاطي مع هذه المسألة.
وهنا يأتي دور الأسرة المسلمة المسؤول الأول عن تربية النشء الذي بدون توجيهه التوجيه الصحيح ستبقى الأزمة على ما هي عليها، كون النشء الحلقة الأضعف التي تتأثر بشكل سلبي كبير بالدعاية التي تعتمد على كل أدوات الجذب والإغراء لتساهم بقدر لا محدود في تكوينه.
ويبرز من الأدوار المنوطة بالأسرة المسلمة في مواجهة تلك المحاولات العمل على تفعيل العمل الأسري الجماعي الذي سيكون بطبيعة الحال المحفز والدافع الأكبر لمشاركة عناصرها في كل عمل يبتعد بهم عن الأشكال المرفوضة للاحتفاء برمضان وإحياء لياليه، كعقد جلسة يومية لقراءة ورد من القرآن الكريم وتدبر معاني بعض الآيات، والنقاش حول بعض التفاسير، وتخصيص وقت لتدارس حكم من أحكام الصيام يومياً، واختيار مسجد بعينه لأداء صلاة العشاء والتراويح، والاتفاق على توزيع العمل داخل المطبخ لإعداد الطعام، والقيام بعمل خيري جماعي كإعداد هدية لأحد الجيران، أو زيارة أحد الأقارب أو التصدق بصدقة لأحد المستحقين، فضلاً عن استحداث بعض الفقرات الترفيهية المفيدة من مثل المشاركة في لعبة جماعية أو عمل مسابقة ثقافية أو تخصيص جائزة لمن يحفظ أكبر قدر من القرآن الكريم، وهي كلها أعمال تبعد عناصر الأسرة عن الانشغال بما يراد لها من إهدار فرصة رمضان العظيمة.