قال الشاعر حافظ إبراهيم، مشيداً بدور الأم في إعداد أجيال تبني حضارات وشعوب تصنع حاضرها ومستقبلها:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
بينما في الحضارة الإسلامية لم تكن الأم مجرد مدرسة في القيام بدور محوري في صناعة الحضارة الإسلامية الكبرى، فتلقت العلوم الإسلامية بالمساجد منذ مطلع الرسالة في مكة، حيث وقفت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها خلف نبي الأمة مؤازرة ومعضدة بنفسها ومالها، وداعية تبذل كل وقتها كمسلمة تحمل مهمة تبليغ دين ربها، وكزوجة لنبي تؤمن برسالته، وكأم ومربية تكفي زوجها الداعية هَمّ بيته وعياله ليتفرغ لمهمته الكبرى.
ومروراً بسمية بنت خياط التي بذلت روحها كأول شهيدة في الإسلام، وبأسماء بنت أبي بكر ودورها الكبير في رحلة الهجرة المباركة والخروج بالإسلام من أرض الظلم، ثم مجاهدة كأم عمارة التي وقفت كأشجع القادة تدافع بنفسها عن رسولها في وقت انفض فيه بعض الصحابة في معركة «أُحد» لعظم البلاء.
انتبهت المرأة المسلمة لدورها الحضاري حين تفهمت مهمتها الأساسية في الحياة كزوجة وأُم تتوقف حركة الحياة ومستوى التقدم في المجتمع على إتقانها دورها المنوط بها في أسرتها بتكوين رجال وقادة وعلماء وفقهاء وعظماء وفاتحين، وتعريفاً ببعضهن، نقدم بعض الأسماء للاحتذاء بهن، وإيماناً أن المعجزات تتكرر، وأمة الإسلام لا ينضب فيها الخير، والأمجاد يمكن أن تعاد.
1- أُم الإمام مالك بن أنس(1):
هي عالية بنت شريك الأزدية، التي أدت دوراً محورياً في توجيه ابنها ونصحه وتوجيهه إلى مسار العلماء ونهجهم منذ صغره، فكانت بحق أماً صالحة أحسنت تربية ابنها وألبسته لباس العلم(2).
ولندع الإمام مالك يحكي عن أمه بنفسه قائلاً: نشأت وأنا غلام فأعجبني الأخذ من المغنين، فقالت أمي: يا بني، إن المغنى إذا كان قبيح الوجه، لم يُلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه، فتركت المغنين وتبعت الفقهاء فبلغ الله بي ما ترى(3).
2- أُم الإمام الشافعي(4):
كان الإمام الشافعي يتيماً، وبعد وفاة والده تفرغت والدته لتربيته وتنشئة الابن ليكون إماماً فاصطحبته من غزة إلى مكة حيث موطن العلم والعلماء وهو ابن سنين، ومن مكة إلى البادية ليتعلم اللغة العربية على أصولها، وتعلم فنون الرماية والفروسية، وقد أجازه الإمام مالك للفتوى وهو ابن الخامسة عشرة من عمره.
ولقد أوقفت ابنها بين يدها، وقالت له: أي بني، عاهدني على الصدق، فعاهدها الشافعي أن يكون الصدق له في الحياة مسلكاً ومنهاجاً.
ويروي الشافعيّ نشأته فيقول: كنت يتيماً في حجر أمّي ولم يكن لها ما تعطيني للمعلّم، وقد رضي منّي أن أقوم على الصبيان إذا غاب وأخفّف عنه، وحفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت «الموطّأ» وأنا ابن عشر، ولما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء وأحفظ الحديث أو المسألة(5)، يقول الشافعي: فعدت إلى أمي أقول لها: يا أماه، تعلمت الذل للعلم والأدب للمعلم.
3- أُم معاوية بن أبي سفيان(6):
القائد يتم تكوينه وتشكيله وتربيته ولا يولد قائداً، تغرس فيه قيم ومبادئ القيادة في مراحل تربيته جميعاً، ولقد حرصت أم معاوية على غرس تلك القيم فيه، فلم تتركه يلهو كالصبية في مثل سنه، وكانت تقسو عليه في التربية، فقالت لها إحداهن يوماً حين رأت ما عليه من أخلاق وأفعال: إنه يوشك أن يكون سيد قومه، فقالت هند غاضبة: ثكلته أمه إن لم يفعل، وتحققت نتائج تربيتها، فورث عن أمه حب الزعامة والحكم والجاه والسيادة وصناعة المجد، فامتد ملكه مشارق الأرض ومغاربها، ونشطت حركة الإعمار في عهده، وبنيت القصور والمساجد التي بقيت آثارها شاهدة حتى اليوم في دمشق عاصمة الدولة الأموية التي أنشأها ليكون أول ملك في الإسلام.
4- أُم الإمام البخاري(7):
نشأ الإمام البخاري يتيمـاً في كنف أمه التي تفرغت لتربيته على حب العلم مهما كلفه الأمر، وقد حج البخاري مع أُمّه وأخيه، ليقيم هو بمكة المكرمة وتعود أمه للتفرغ لِطلب العلم من مصدره وبلغته العربية في مدينة العبادة والعلماء، وأثرت نشأته مع أم مُحبّة للعلم والدين وذات كرامة بين المتدينين على المضي قدماً في تلقيه العلم، ولما كانت أمه من أهل الكرامة والولاية، فبعد أن أصابه العمى وهو صغير ظلت تدعو الله عز وجل ليسترد ابنها بصره، فاستجاب الله لها ورد إليه بصره بفضله سبحانه، ويرجع البخاري لبلاده من مكة أميراً لأهل الحديث في عصره وحتى يومنا هذا، وذلك بفضل أم فضلت أن تتخلى عن صحبة ابنها وقربه منها ليصير إلى ما صار إليه.
5- أُم محمد الفاتح(8):
روى بشر الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لتَفْتَحُنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» (مسند أحمد: 4/ 335)، استطاعت أم السلطان محمد الفاتح أن تغرس في صدره أنه هو الأمير المقصود من ذلك الحديث النبوي الشريف حين كانت تصطحبه وهو صغير وقت صلاة الفجر لتريه أسوار القسطنطينية قائلة له: أنت يا محمد تفتح هذه الأسوار، اسمك محمد كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم، والطفل الصغير يقول: كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟ فتقول له: بالقرآن والسلطان والسلاح وحب الناس، ونعرف جميعاً ما آل إليه التاريخ من فتح للمدينة على يديه.
إن كلمات الأمهات في الصغر وفعلهن مع أبنائهن لا يشكل مستقبل هؤلاء الأولاد وحسب، وإنما يشكل مستقبل الأمم وتوجهاتها ومآلها، فإلى مربيات الأمة، عدن لدوركن لتعود الأمة لمكانتها.
___________________________
(1) الإمام مالك بن أنس هو فقيه ومحدث نال شهرة وصيتًا كبيرًا واشتهر بغزارة علمه وقوة حفظه للحديث النبوي، وما زال اسمه يتلألأ بين أعلام الفقه، فهو ثاني الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي، وهو صاحب كتاب «الموطأ» الشهير الذي يعد من أكثر الكتب تأثيراً ونفعاً، ويعتبر من أوائل كتب الحديث النبوي التي قدمت في هذا المجال، يقول الإمام الشافعي عن «الموطأ»: ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صواباً من «موطأ» مالك.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي.
(3) التلقين في الفقه المالكي لعبدالوهاب بن علي البغدادي.
(4) محمد بن إدريس الشافعي، إمام من أئمة المذاهب الفقهية الأربعة من أهل السُّنة والجماعة في الإسلام ومذهبه اسمه المذهب الشافعي.
(5) سير أعلام النبلاء للذهبي، ج10، ص11.
(6) أميرُ المُؤمِنين وخَليفَةُ المُسْلِمين أبُو عَبدَالرَّحمَن مُعاويَة بنُ أبي سُفيان بن حَرب بن أُمَيَّة من أصحاب النَّبيُّ مُحَمَّد، وأحد كُتَّاب الوحي ومؤسس الخِلافَة الأُمَويَّة وأوّل خُلَفائها.
(7) أَبُو عَبْدِاللَّٰه مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ الْبُخَارِيّ، هو أحد كبار الحفّاظ الفقهاء من أهم علماء الحديث وعلوم الرجال والجرح والتعديل والعلل عند أهل السُّنة والجماعة، له مصنّفات كثيرة أبرزها كتاب «الجامع الصحيح»، المشهور باسم «صحيح البخاري».
(8) وُلد محمّد الفاتح عام 1429م، ويكفي تعريفاً به أنه فاتح القسطنطينية.