منذ أن جاءه رسول السماء بـ«اقرأ» (سورة العلق)، حتى حمل النبي محمد صلى الله عليه وسلم لواء النهضة للبشرية ليأخذها إلى ما فيه خلاص لدنياها وآخرتها، ولكن كيف لنهضة تبدأ من غير أسرة مسلمة مستقيمة؟
لذلك كان اهتمام النبي محمد صلى الله عليه وسلم ببيته وأسرته لتكون نبراساً للأسرة المسلمة، التي هي العمود الأساسي في نهضة المجتمع ببنائها وأبنائها، وهي العنوان الرئيس لكل مبدع ناجح متفوق، بل هي اللبنة الأولى في صناعة القيادة الرشيدة بتعزيز التماسك الأسري، وكذلك تهيئة البيئة المحفزة للأبناء على التميز العلمي والخلقي ودعم الأبناء في رسم خارطة مستقبلهم.
البداية الصحيحة
والبناء الصحيح لا بد له من أساس قوي متين، ونقصد البداية ولحظات الاختيار، فالأسرة المبنية على الدين هي سر نهضة الأمة، وهي التي تغرس القيم وتخرج لنا مواطناً صالحاً لدنياه وآخرته، وهي التي تخرج إنساناً سوياً مستقيماً قادراً على العطاء، وفي اختيار الزوج الصالح، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا خَطَب إليكم مَن تَرْضَوْنَ دِينَه وخُلُقَه، فزَوِّجُوه، إلا تفعلوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ»، وفي اختيار صاحبة الدين قال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» (متفق عليه).
أسرة الرسول نموذجاً
كان صلى الله عليه وسلم يحمل مشروع نهضته في بيته، فكانت الشورى عماد بيته صلى الله عليه وسلم، وإن كانت حياته كلها نموذجاً يحتذى به، ولكن هناك صفات واضحة لمشروع نهضته في بيته، نأخذ منها:
– خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا. (رواه البخاري).
وموطن الاستشهاد استشارة النبي صلى الله عليه وسلم زوجته في أمور مصيرية للأمة ورفع لقدرها دون تفرقة بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة ما دامت مشورة صائبة، بل يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بمشورتها لحل مشكلة اصطدم بها وأغضبته، وهذا عمود أساسي لمشروع نهضته صلى الله عليه وسلم.
– كما استشار زوجته حين جاءه جبريل أول مرة، فرجع فزعاً إلى زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، وهو يقول: «زملوني زملوني»، ثم أخبر خديجة بالخبر وقال: «لقد خشيت على نفسي»؛ فقدمت النصح له وأخذته إلى من تراه عارفاً بالخبر ورقة بن نوفل.
العمل الجماعي
ومن مشروع نهضته صلى الله عليه وسلم، تعاونه مع أهل بيته لخلق مجتمع يقوم على العمل الجماعي وليس الفردية والأنانية التي نعاني منها الويلات، فكان صلى الله عليه وسلم لا يأنف من أن يقوم ببعض عمل البيت ويساعد أهله.
سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. (رواه البخاري)، وفي رواية الإمام أحمد: كان بشرًا من البشر يَفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه.
بل مساعدته صلى الله عليه وسلم لزوجاته فيما لا يقدرن عليه، يروي لنا أنس أنه صلى الله عليه وسلم مع إحدى زوجاته وهي السيدة صفية يساعدها وهي تحاول أن تركب على البعير، فيقول: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. (رواه البخاري).
العدل
ومن مشروع نهضته صلى الله عليه وسلم عدله بين زوجاته غارساً قيمة العدل التي تقوم عليه نهضة الأمم والشعوب، فعَنْ عَائِشَةَ زَوْج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» (رواه الحاكم).
وهنا يقول الإمام ابن القيم في كتابه «زاد المعاد»: وكان صلى الله عليه وسلم يقسم بينهن في المبيت والإيواء والنفقة، وأما المحبة فكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك».
ومن نهضته ببيته صلى الله عليه وسلم احترامه لزوجاته وعدم إيذائهن ولو بكلمة، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكُ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (رواه مسلم).
وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» (رواه أبو داود).