الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
الأولاد ثمار القلوب، وكلنا يرجو ازدهار زرعه، ويترقب قطاف ثمره، ويرقب أبناءه بعين الحب، ويتمنى لهم من الصلاح التمام، ويبذل في سبيل هذا الأمل الغالي والنفيس، لكن تبقى حصيلة الثمر رهينة في يد القدر، فتظل يد الله تعالى هي المرجوة، وحول الله سبحانه هو القوة وهداية الله أكمل هداية، وأنبل وأشرف غاية.
والعقلاء يدركون أن ملخص حياة الإنسان يكون عند ختام العمر وفي اللحظات الأخيرة منه على فراش الموت؛ لذا شُرعت الوصية، وعمل بها الأنبياء والمرسلون، واقتدى بهم الأتباع والصالحون؛ (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (البقرة: 132)، والوصية بهذا الدين أعظم الوصايا وأعلاها وأغلاها، وهي وصية الله للأولين والآخرين.
التربية بالتقوى
الوصية الوالدية من أهم وسائل التربية المؤثرة وركائزها العظيمة الباقية؛ لأنها توجيهات تلامس الواقع، ومنارات تنير ردهات المستقبل.
لذا أشرف عمر بن عبدالعزيز على زرعه بنفسه فأدَّب أولاده فأحسن الأدب، وروّضهم فأحسن الرياضة، وجعل منهم قوالب قرآنية تتطلع للصلاح والإصلاح، ثم لما حانت لحظة الوداع وضع لهم آليات تضمن لهم الثبات حتى الممات؛ فكانت وصيته بهم إلى من أنزل الكتاب وأجرى السحاب وهزم الأحزاب.
ملخص حياة الإنسان يكون عند ختام العمر لذا شُرعت الوصية وعمل بها الأنبياء واقتدى بهم الصالحون
وبين البدء والختام نرى خيوط التربية موصولة، فقد ذكر كتاب «السير» أنه لما حضرت عمر بن عبدالعزيز الوفاة دخل عليه مسلمة بن عبدالملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد أفغرت أفواه ولدك من هذا المال، فلو أوصيت بهم إليَّ وإلى نظرائي من قومك فكفوك مؤونتهم، فلما سمع مقالته، قال: أجلسوني فأجلسوه، فقال: لقد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك: أني قد أفغرت أفواه ولدي من هذا المال فوالله ما ظلمتهم حقاً هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئاً لغيرهم، وأما ما قلت الوصية فإن وصيتي فيهم: (إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (الأعراف: 196).
وإنما ولد عمر بين أحد رجلين: إما صالح فسيغنيه الله، وإما غير ذلك فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصية الله، ادع لي بَنِيّ، فأتوه فلما رآهم ترقرقت عيناه وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم، وبكى، يا بَنيّ، إني قد تركت لكم خيراً كثيراً لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً، يا بني، إني قد مثلت بين الأمرين: إما أن تستغنوا وأدخل النار، أو تفتقروا إلى آخر يوم الأبد وأدخل الجنة، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إليَّ، قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله(1).
وقال ابن الجوزي: أبلغني أن المنصور قال لعبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: عظني قال: مات عمر بن عبدالعزيز وخلَّف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً، كفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران، وقسم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً، ومات هشام بن عبدالملك وخلف أحد عشر ابناً، فقسمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبدالعزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يُتصدق عليه(2).
وهنا مجموعة من الدروس نحتاج إلى تأصيلها في الواقع، لقد وضع عمر بن عبدالعزيز برنامجاً تربوياً ناجحاً لأولاده في مستقبل الأيام تربى هو عليه قبل ذلك ثم سقاه لأولاده ماءً سلسبيلاً.
ما أجملها من وصية حين قال عمر: إن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين! ففيها استشعار لمعية الله تعالى واستحضار لعظمته سبحانه، فدائماً الله أولاً، وما دام الأمر كذلك فلا خوف على مال ولا ولد؛ لأنهم عند الأمان الذي لا ضياع معه، والركن الشديد الذي لا نجاة إلا في رحابه.
فوالله ما ظلمتهم حقاً هو لهم، كلمة رائقة بتوقيع الخليفة العمري الزاهد يتمثل فيها الورع الشديد في أحرج اللحظات، وتفويض الأمر لله تعالى، والحرص الشديد على المحافظة على المال العام؛ لأنه يعلم أن من دخل دار الهوى تاجر بالعمر، وهو أنفس ما يملك الإنسان، فأراد أن يودعها كفافاً لا له ولا عليه، وليكن دائماً الله أولاً.
ما أحوجنا إلى تأصيل المعاني الإيمانية الجليلة في نفوس أولادنا لتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم!
وغريب أمر هؤلاء الذين يصرون على سرقة المال الحرام ليستمر وزرهم بعد الممات!
ما أحوجنا إلى تأصيل هذه المعاني الإيمانية الجليلة في نفوس أولادنا لتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم؛ كالورع والخشية والخوف والرجاء ومراقبة الله في السر والعلن.
معادلة لا يفهمها إلا الكبار حين قال عمر: إما أن تفتقروا وأدخل الجنة، وإما أن تستغنوا وأدخل النار، فاكتفى بالحلال الطيب ولو كان قليلاً؛ لينجو من لفحات النيران إلى نفحات الجنان، فإن كان الحرام أعلى رأساً فإن الحلال أثبت قدماً، ودرهم من حلال تستجلب به البركات خير من ألف درهم من حرام تستمطر به اللعنات.
يقول الإمام ابن القيم: الدراهم أربعة؛ درهم اكتسب بطاعة الله وأخرج في حق الله فذاك خير الدراهم، ودرهم اكتسب بمعصية الله وأخرج في معصية الله فذاك شر الدراهم، ودرهم اكتسب بأذى مسلم وأخرج في أذى مسلم فهو كذلك، ودرهم اكتسب بمباح وأنفق في شهوة مباحة فذاك لا له ولا عليه، هذه أصول الدراهم(3).
الذكر الطيب والثناء الحسن خير كنز يضاف إلى رصيد الإنسان في حياته وبعد مماته، وأنفس ميراث عند أصحاب الأفكار النيرة، والعقول المبصرة تهون معه الدنيا بزخرفها وزخارفها، فما ترك عمر لأولاده كثير مال وإنما ترك لأولاده سيرة حسنة ينتفع بها العيال، فلم يكن همه أن يكون في صوف الموسرين، بل اختار أن يرفع شعار (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء: 84).
صلاح الآباء يمتد إلى الأبناء، وهذه ثمرة جناها عمر بن عبدالعزيز في أولاده، وصدق أرحم الراحمين: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21).
____________________
(1) سيرة عمر، ص 116-115.
(2) المرجع السابق، ص 338.
(3) الفوائد، ص 246.