قبل أن نتلو الآيات الكريمة التي تصدَّت لأحكام الأسرة وتنظيم العلاقات بين آحادها، أو نشير إلى بعض تلك الآيات الكريمة، لا بُدَّ أن ننبه إلى أمرين:
أولهما: أنَّ العبادات قد ذكرت في القرآن إجمالًا، وترك أمر بيانها للنبي -صلى الله تعالى عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن الأسرة ذكرت أحكامها تفصيلًا من وقت تكوينها بعقد الزواج، إلى أن يقرر الله تعالى التفريق بالموت أو الطلاق، وما بينته السنة لا يعد كثيرًا بالنسبة لما بينه القرآن الكريم.
وهنا يسأل السائل، لماذا كان التفصيل في أحكام الأسرة، ولم يترك أمرها لبيان النبي -عليه الصلاة والسلام- فقط، ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ هذه حكمة علَّام الغيوب، وإننا نلتمس معرفة بعض هذه الحكمة، راجين ألَّا نكون داخلين في النهي في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: ٣٦] .
وإن هذا بلا ريب من عناية القرآن الكريم بالأسرة؛ إذ جاء النص على أحكامها بآيات محكمة، وإذا كانت عناية الإسلام بالعبادات جعلت أحكامها عملية يتولَّاها النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لتربي النفوس عليها بالدرية والتهذيب لا بمجرد التلقين، فعناية الإسلام بالأسرة كانت بالنصِّ الكامل على نظامها، لكيلا ينحرف الناس بأهوائهم عنها، وليكلا ينكروا تطبيقها، ويجعلوا لعقولهم سبيلًا للتحكم في أموالها، ونظامها، ولأنَّها متصلة بالرضا والغضب بين الزوجين والأقارب، فكان لا بُدَّ من ميزان مقرر ثابت بحكم الأهواء، ويضع الأمور في مواضعها.
وإن أحكام الأسرة مؤثرة في المجتمع وموجهة له؛ لأن الأسرة هي دعامة البناء الاجتماعي يضطرب باضطرابها، ويقوى بقوتها، ولأنَّ الإسلام جاء لإقامة مجتمع فاضل تربطه المحبة، وتوثق روابطه المودة، كانت عنايته بأحكام الأسرة، وأن تكون مستقرة يتصل فيها ماضي الأمة بحاضرها.
ومن الناس من ظنوا أنهم يستطيعون إقامة بناء صالح للأسرة من غير أن يتقيدوا بالأحكام القرآن الكريم باسم ما يسمونه “تطور الزمان” يقلبون فيه الأوضاع، فتضطرب الموازين، ومن الناس من يبالغون في إعطاء المرأة حقوقًا لا تقتضيها فطرتها، ولا النظام الاجتماعي، ويحسبون أنهم يسيرون بالجماعة إلى الإمام، وهم يرجعون بها إلى الوراء، حيث تفسد الطبائع وتخالف الفطرة.
ولقد يقول بعض علماء الاجتماع: إنَّ النشأة الأولى في جاهلية الإنسان كان فيها السلطان على الأولاد للمرأة كأنثى الحيوان، أو أكثره، حتى إذا عرف البيت، وانتظمت العلاقة بين الرجل والمرأة، وكان لكل واحد منهما ما هيأته الفطرة له، فالمرأة ترأم الأولاد، وتقوم على رعايتهم، والأب يكدح ويعمل ليوفر لهم الرزق.
والآن يحاولون أن يقلبوا الأمور، ويضعوها في غير مواضعها، حتى لقد قال بعض المفكرين: إننا لو سرنا خطوات بعد ما ابتدأنا السير فيه وأوغلنا، فستعود الأمور إلى سيطرة المرأة على البيت، ويكون الرجل غير مستقر في بيت، ويكون نظام المسافدة.
من أجل هذا فيما ندرك وعلى قدر إدراكنا نص الكريم على أحكام الأسرة بالتفصيل، حتى لا يتهجّم المنحرفون ليشرِّعوا لأنفسهم ما لم يشرِّع الله ويفسدوا الفطرة.
ولقد كان -سبحانه وتعالى- بعد ذكر بعض أحكامها يقول -جل شأنه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ ِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: ١٣] ، ومن ذلك قوله تعالى بعد بيان المواريث: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: ١٧٦] .
وأحكام الأسرة التي تعرض لها القرآن تبتدئ من وقت إنشاء الزواج أو التفكير فيه، فأوجب الإعلان في الزواج، فقال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: ٢٣٥] .
وبيِّنَ -سبحانه وتعالى- في كتابه أنَّ المهر واجب على الرجل؛ لأنَّ كل الواجبات المالية على الرجل، حتى لا تبتذل المرأة في كسب المال فتتدلى إلى الهاوية. وقد قال تعالى في ذلك: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: ٤] ، وقرَّر أن المرأة مستحقة للمهر كاملًا بالدخول بها. وقد قال تعالى في ذلك: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: ٢٠، ٢١] .
وإذا لم تتمّ بينهما عشرة زوجية، وكان تفرّق قبل الدخول، فإن المرأة لا تحرم من المهر حرمانًا كاملًا، بل يبقى لها نصفه، ولأنَّ الرجل لم تقم بينهما حياة زوجية يشتاران عسلها، فإنه يسقط عنه النصف، وذلك ما قاله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم؛ إذ يقول -جلَّ من قائل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: ٢٣٦، ٢٣٧] .
ولأن الإسلام يريد مجتمعًا فاضلًا طاهرًا، لا تشيع فيه الفاحشة، أباح تعدد الزوجات إلى أربع فقط، وقد كان من قبله إلى غير عدد محدود، كما ذكرت التوراة، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: ٣] .
وشرط إباحة الزواج في الأحوال كلها العدالة، سواء أكان الزواج الأول أم الزواج الثاني، ولقد أجمع الفقهاء على أنَّ من تأكَّد أنه سيظلم امرأته إن تزوج يكون آثمًا؛ لأن الزواج حينئذ يكون موصولًا للظلم فيأخذ حكمه، ولكنّ الزواج لا يبطل، وليس للحاكم أن يقرِّر بطلانه، أو يمنعه، لكن إذا وقع الظلم بالفعل كان للقاضي أن يفرق بينهما إن طلبت الزوجة ذلك، وذلك لمقام النهي في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [النساء: ١٩] .
____________________________________________
المصدر: كتاب «المعجزة الكبرى القرآن».