الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
ذكر المؤرخون أن الباعث للإمام البخاري على تصنيف الجامع الصحيح أنه كان يوماً في مجلس إسحاق بن راهويه فقال إسحاق: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع هذا القول في قلب البخاري؛ فأخذ في جمع الكتاب.
وروي عن البخاري أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذبّ عنه، فسألت بعض المعبرين، فقال: إنك تذب عنه الكذب؛ فهو الذي حملني على إخراج الصحيح(1).
الإعداد الجيد للناشئة يحتاج يد صانع ترأب الصدع وتُقَوّم المعوج وتبصر بالطريق السوي
العقلاء يعرفون أن الفرصة سريعة الزوال تمر مر السحاب سريعة الفوت بطيئة العود، والفرصة التي تطير لا تترك وراءها إلا غبار الحسرات ولهيب الزفرات؛ لذا بادر الإمام البخاري بعد أن سمع الكلمة من شيخه التي صادفت قلباً خالياً؛ فشمّر عن ذراع وكشف عن ساق وجمع الصحيح ليكون ذخراً له يوم التلاق.
وهذا شأن العقلاء وسبيل النبهاء؛ فينبغي لمن قدر على ابتداء المعروف أن يعجله حذراً من فواته، ويبادر به خيفة عجزه، ويعتقد أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه، ولا يمهله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بقدرة فاتت فأعقبت ندماً، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلاً! ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب فكره لكانت مغارمه مدحورة، ومغانمه محبورة، وقيل: من أضاع الفرصة عن وقتها؛ فليكن على ثقة من فوتها(2).
ولقد تميز الإمام البخاري بصفات عذبة وشمائل جمة ساهمت في اقتناص الفرصة، منها: الإقبال على العلم والجد في تحصيله؛ فقد بدأ التأليف والتصنيف وعمره 18 عاماً، صنف الجامع ورتبه وبوّبه في المسجد الحرام، قال رحمه الله: «ما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت وصليت ركعتين وصنفته من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله»(3).
ومن سماته أيضاً قوة الحفظ وكثرة المطالعة والصبر والمثابرة حتى قيل: إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سرداً، ويحوي الكتاب 7275 حديثاً اختارها البخاري من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه!
غــلام في حكمة الشيوخ!
قالوا: ألسنة الخلق أقلام الحق، ومن أحبه الله تعالى لهجت ألسنة الخلائق عليه بعاطر الثناء وجميل المديح، فالحب إذن حبل ممدود بين أهل السماء وأهل الأرض، وهذه نبذة مختارة عن سيد النبهاء وأمير المحدثين:
قال محمد بن قتيبة البخاري: كنت عند أبي عاصم النبيل فرأيت عنده غلاماً فقلت له: من أين؟ قال من بخارى، قلت: ابن من؟ قال: ابن إسماعيل، فقلت: أنت من قرابتي، فقال لي رجل بحضرة أبي عاصم: هذا الغلام يناطح الكباش؛ يعني يقاوم الشيوخ.
ضرورة التنشئة على طلب المعالي وزرع النبوغ والتقدم والازدهار في قلب الناشئة
قال قتيبة بن سعيد: لو كان محمد بن إسماعيل في الصحابة لكان آية، جالست الفقهاء والزهاد والعباد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل البخاري وهو في زمانه كعمر في الصحابة.
قصارى القول: إن آيات الثناء والمديح من شيوخ الإمام البخاري وأقرانه وتلاميذه التي تدل على سيلان ذهنه وقوة حفظه وذكاء قريحته وصفاء فطرته كثيرة جداً، فقد لقب بـ«شيخ الحفاظ»، و«سيد الفقهاء»، وغيرهما، حتى قال الحافظ ابن حجر: «لو فتحت باب الثناء عليه لفني القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له»(4)، وما بين منطوق باللسان ومرقوم بالبنان من القرن الثالث الهجري وإلى آخر الزمان تترحم عليه جموع البشر ضحى وعشياً بقولهم: قال البخاري رحمه الله في كتابه «الجامع الصحيح»، إنه إشراق النهايات ورضا رب البريات.
الأم الرؤوم
لا بد من الاعتراف بفضل البيئة التي نشأ فيها الإمام البخاري، ولا يعزب عن البال دور هذه الأم الرؤوم التي لم يشغلها فقد زوجها عن تربية صغيرها، فلقد صارت به نحو الفطرة السليمة ودفعته في اتجاه الريح الطيبة؛ فاستقر شراعها على الماء، واستجاب لدعائها رب السماء.
إن الإعداد الجيد للناشئة في عمر الزهور يحتاج إلى يد صانع ترأب الصدع، وتُقَوّم المعوج، وتبصر بالطريق السوي؛ لتتفتح هذه الزهور مع الأيام وتشب وتكبر وتملأ الحياة بأريجها عطراً وحباً وروحاً وريحاناً، وهل كان العظماء إلا خريجي مدرسة الأمومة الناجحة والتربة الصالحة؟!
وهذا ما أدركته أم الإمام البخاري، فلقد ربته على عينها، وتاجرت فيه مع ربها؛ فربحت تجارتها، وأينعت ثمرتها، وسعدت به الخلائق، وستبقى ذكراه ما بقيت هناك شفاه تنطق بأحاديث خير البرية صلى الله عليه وسلم، وتلك مهمة الأسرة، ألا فما أيسر التكليف وما أصعب التسويف! والإخفاق الأسري عواقبه وخيمة وثمرته عقيمة؛ لأن الشروخ المتصدعة في الجدار الأسرى غالباً ما تكون عوامل عطب في طريق الوصول إلى شباب أمثل ودعاة أفضل.
مدارسة حياة العظماء والاستفادة من قصصهم من أقوى عوامل التربية الصحيحة
ومن الدر المنظوم من كلام الكبار نعلم «إن اكتمال الخصائص الإنسانية الفاضلة لا يتم طفرة ولا ينشأ اتفاقاً، بل هو نتيجة سلسلة من الجهود المتلاحقة والبرامج المدروسة والإشراف الدقيق، وإن الملكات العظيمة تكمن في النفس كمون الجمال والعذوبة والحلوى في البذور والبراعم، وكما تتضافر الحرارة والمياه وضروب العناية على استخراج أطايب الثمر من هذه الأصول المطوية الضامرة، تتضافر عناصر البيئة الصالحة والتربية الراشدة على تفتيق المواهب العليا في الإنسان وإنضاج ما يولد فجاً في أيام الطفولة وعهود الحداثة الأولى حتى يبلغ مداه، ويصل إلى مستواه.
وكثيراً ما تعطب الثمار، ويقل المحصول لفساد الجو الذي أحاط بالزروع، وكثيراً ما تفسد الأجيال وتلتهم نضارتها الآفات لقصور المربين والمعلمين عن تهيئة الجو الذي تنبت فيه الناشئة نقية الفطرة مصونة النماء»(5).
ويبقى السؤال: هل فكر الآباء والأمهات بجد واجتهاد في العمل على إيجاد جيل من العظماء الفاتحين والعلماء الربانيين كابن تيمية، والبخاري، وصلاح الدين؟!
إن هذه البراعم الجميلة تحتاج إلى مزيد من العناية والرعاية، وهذه نقاط مقترحة على بساط البحث:
أولاً: ضرورة التنشئة على طلب المعالي وزرع النبوغ والتقدم والازدهار في قلب الناشئة.
ثانياً: الاستعداد الذهني والنفسي للوصول إلى أسمى الغايات وأعلى الدرجات.
ثالثاً: اختيار المعلم الصالح الذي يستطيع تنمية هذه الزهرة ويحافظ على تربتها النقية وفطرتها السوية.
رابعاً: مدارسة حياة العظماء والاستفادة من قصصهم وأخبارهم؛ فهي من أقوى عوامل التربية الصحيحة.
خامساً: استفراغ الجهد والطاقة والعناية بالناشئة، واستعذاب الألم والتعب في سبيل الوصول إلى أنبل غاية وأشرف مأمول.
_______________________
(1) سير أعلام النبلاء (12/ 401).
(2) فيض القدير (4/ 282).
(3) مقدمة فتح الباري، ص513.
(4) المرجع السابق، ص565 – 568.
(5) جدد حياتك، ص187.