من الرجال الذين رفع القرآن قدرهم بعد أن حملوا القرآن وسخروا أنفسهم له، هو الإمام القدوة قاضي دمشق، أو كما قال عنه الإمام الذهبي عنه: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء عويمر بن زيد بن قيس، ويقال: عويمر بن عامر، ويقال: ابن عبدالله، وقيل: ابن ثعلبة بن عبدالله، الأنصاري الخزرجي، حكيم هذه الأمة، وسيد القراء بدمشق، وقال ابن أبي حاتم: هو عويمر بن قيس بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج، قال: ويقال: اسمه عامر بن مالك، وقال البخاري: سألت رجلاً من ولد أبي الدرداء، فقال: اسمه عامر بن مالك، ولقبه: عويمر.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، وهو معدود فيمن تلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أبداً أنه قرأ على غيره، وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصدر للإقراء بدمشق في خلافة عثمان وقبل ذلك(1)، وله العديد من المناقب:
أولاً: إسلامه وجهاده:
قال سعيد بن عبدالعزيز: أسلم أبو الدرداء يوم «بدر»، ثم شهد «أُحداً»، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن يرد من على الجبل، فردهم وحده، وكان قد تأخر إسلامه قليلاً.
قال شريح بن عبيد الحمصي: لما هزم أصحاب رسول الله يوم «أُحد»، كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فلما أظلهم المشركون من فوقهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ليس لهم أن يعلونا»، فثاب إليه ناس، وانتدبوا، وفيهم عويمر أبو الدرداء، حتى أدحضوهم عن مكانهم، وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الفارس عويمر»، قال أبو الزاهرية: كان أبو الدرداء من آخر الأنصار إسلاماً، وكان يعبد صنماً، فدخل ابن رواحة، ومحمد بن مسلمة بيته، فكسرا صنمه، فرجع فجعل يجمع الصنم، ويقول: ويحك! هلا امتنعت؟ ألا دفعت عن نفسك؟ فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد، دفع عن نفسه، ونفعها!
فقال أبو الدرداء: أعدي لي ماء في المغتسل، فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إليه ابن رواحة مقبلاً، فقال: يا رسول الله، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا؟ فقال: «إنما جاء ليسلم، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم».
ثانياً: أبو الدرداء والقرآن الكريم:
حفظ أبو الدرداء القرآن الكريم، وعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس بن مالك: «مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد»، وزاد عليهم عامر الشعبي: أُبيّ بن كعب، وسعد بن عبيد.
لما توفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، انتقل أبو الدرداء إلى الشام، فقد روى محمد بن كعب القرظي أنه «جمع القرآن خمسة: معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأُبيّ، وأبو أيوب»، فلما كان زمن عمر، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: «إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعني برجال يعلمونهم»، فدعا عمر الخمسة، فقال: «إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا»، فقالوا: «ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير -لأبي أيوب- وأما هذا فسقيم -لأبي- فخرج معاذ، وعبادة، وأبو الدرداء».
فقال عمر: «ابدؤوا بحمص، فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن، فإذا رأيتم ذلك، فوجهوا إليه طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين».
فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة بن الصامت؛ وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين، فمات في طاعون عمواس، ثم صار عبادة بعد إلى فلسطين وبها مات، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات.
وقد تصدّر أبو الدرداء للإقراء في دمشق منذئذ، فصار سيدًا للقراء بها، وقيل: إنه حلقة إقراء أبي الدرداء كان بها أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقن، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائمًا، فإذا أحكم الرجل منهم، تحول إلى أبي الدرداء يعرض عليه القرآن.
وكان ممن عرض عليه القرآن عطية بن قيس الكلابي، وأم الدرداء، وخليد بن سعد، وراشد بن سعد، وخالد بن معدان، وعبدالله بن عامر اليحصبي.
وقال سالم بن أبي الجعد: إنه سمع أبو الدرداء يقول: «سلوني، فوالله لئن فقدتموني لتفقدن رجلاً عظيمًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم»(2).
ثالثاً: رواته:
روى عنه: أنس بن مالك، وفضالة بن عبيد، وابن عباس، وأبو أمامة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وغيرهم من جلة الصحابة، وجبير بن نفير، وزيد بن وهب، وأبو إدريس الخولاني، وعلقمة بن قيس، وقبيصة بن ذؤيب، وزوجته أم الدرداء العالمة، وابنه بلال بن أبي الدرداء، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن يسار، ومعدان بن أبي طلحة، وأبو عبدالرحمن السلمي، وخالد بن معدان، وعبدالله بن عامر اليحصبي، وقرأ عليه عطية بن قيس، وأم الدرداء.
وقال أبو عمرو الداني: عرض عليه القرآن: خليد بن سعد، وراشد بن سعد، وخالد بن معدان، وابن عامر، كذا قال الداني، وولي القضاء بدمشق، في دولة عثمان، فهو أول من ذكر لنا من قضاتها، وداره بباب البريد، ثم صارت في دولة السلطان صلاح الدين تعرف بدار الغزي(3)، ويروى له مائة وتسعة وسبعون حديثاً، واتفقا له على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية.
رابعاً: منزلته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي الدرداء: «هو حكيم أمّتي»(4)، وكان الصحابة يحفظون له منزلته، فقد روى مكحول الشامي أنه كان الصحابة يقولون: أرحمنا بنا أبو بكر، وأنطقنا بالحق عمر، وأميننا أبو عبيدة، وأعلمنا بالحرام والحلال معاذ، وأقرؤنا أُبيّ، ورجل عنده علم ابن مسعود، وتبعهم عويمر أبو الدرداء بالعقل.
ولما حضرت معاذ بن جبل الوفاة، قالوا: أوصنا، فقال: العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما -قالها ثلاثاً- فالتمسوا العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وسلمان، وابن مسعود، وعبدالله بن سلام الذي كان يهوديًا فأسلم.
كما قال أبو ذر لأبي الدرداء: ما حملت ورقاء، ولا أظلت خضراء، أعلم منك يا أبا الدرداء.
وكان عبدالله بن عمر بن الخطاب يقول: حدثونا عن العاقلين، فيقال: من العاقلان؟ فيقول: معاذ، وأبو الدرداء.
وقد أعلى عمر بن الخطاب من قدر أبي الدرداء، ففرض له أربعمائة درهم في الشهر كالبدريين، وقال التابعي مسروق بن الأجدع: وجدت علم الصحابة انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأبي وزيد، وأبي الدرداء، وابن مسعود؛ ثم انتهى علمهم إلى علي، وعبدالله(5).
وفاته
لما نزل به الموت بكى، فقالت له أم الدرداء: وأنت تبكي يا صاحب رسول اللَّه؟ قال: نعم، وما لي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي، ودعا ابنه بلالًا فقال: ويحك يا بلال، اعمل للساعة، اعمل لمثل مصرع أبيك، واذكر به مصرعك وساعتك فكأن قد ثم قبض، وورد أن الصحابي أبو الدرداء قد توفي في العام 31هـ(6).
________________________
(1) سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين الذهبي، ج2، ص336.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق ص337.
(4) الإصابة في تمييز الصحابة عويمر أبي الدرداء.
(5) المرجع السابق.
(6) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص24.