أفرزت التطورات التي يشهدها العالم المعاصر في مجال الإعلام والاتصال العديد من الإشكالات الاجتماعية والتحديات والأخطار، أهمها تلك التي تواجه منظومة القيم؛ مما أدى لتلاشي الدعائم الأساسية المرتكزة عليها تلك القيم، ومن ثم تغييرها لعناصر قيمية تم الترويج لها عبر منظومة دولية فرضت بعضها بالقوة العسكرية، والبعض الآخر بالقوى الناعمة من دراما سينمائية وتلفزيونية ومنصات تواصل اجتماعي، فضلاً عن الاتفاقيات الملزمة للدول والقاضية بقبول أنساق قيمية لا تنتمي للثقافة المحلية للدول العربية والإسلامية.
وإذا سلمنا أن النسق القيمي هو الذي يوجه السلوك العام للمجتمعات، ويقرر مدى قبولها أو رفضها لقيمة معينة، فعلينا أن نعلم أن أي تغيير في النسق القيمي يترتب عليه تغيير في سلوكيات الفرد من نمط إلى آخر، فالنسق القيمي يتكون من ثلاثية المعرفة والوجدان والسلوك، وهي المكونات التي تحفز لدى الفرد الاختيار والتقدير ثم التحيز والفعل، فالمكون المعرفي يدفع لاختيار أو رفض القيمة، بينما يؤدي المكون الوجداني إلى التعلق بالقيمة والاعتزاز بها والشعور بالسعادة لفعلها حتى وإن كانت قيمة لها عواقب إجرائية، بينما يأتي المكون السلوكي ليؤكد ممارسة الفعل وتبني القيمة.
للأمة نسق قيمي بناه القرآن وعززته السُّنة:
الأمثلة في بناء الأنساق القيمية للأمة الإسلامية في جميع مناحي حياتها كثيرة، فلتبني قيمة العفة والبعد عن رذيلة الزنى بني لنا القرآن والسُّنة المطهرة نسقاً قيمياً يبدأ من قوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (النور: 30)، وتلاها بقوله سبحانه: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور: 31)، وسبقهما بالتوجيه لعدم دخول بيوت الناس إلا بعد أن يستأذنوا حتى لا يطلعوا على عوراتهم، ليجيء حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».
المنتجات الدرامية بمختلف وسائلها عززت في السنوات العشر الأخيرة من الفوضى الأخلاقية والسلوكية
ومنذ نشأته، استطاع الإسلام وحتى القرن التاسع عشر أن يحتفظ للأمة بخصوصية قيمية جاءت متوافقة مع المنهج الرباني الذي طبقته الأمه عبر تماسكها داخل منظومة الحكم التي تدرجت من النبوة إلى الخلافة الراشدة مروراً بالملك العاض الذي ظل محافظاً على وحدة متماسكة للأمة ومنظومتها القيمية التي ميزتها عن غيرها.
إلا أنه مع مرحلة الجبريات وظهور الدويلات، وانهيار الخلافة/ الملك العاض، وتزامن ذلك مع ظهور وسائل الإعلام والاتصال التي تدرجت من المطبعة إلى الراديو، فالسينما والتلفزيون، وصولاً إلى مرحلة وسائل التواصل الاجتماعي، استطاعت موجة الغزو الثقافي أن تخترق الشخصية المسلمة وتؤثر في تبنيها لأنساق قيمية بعيدة كل البعد عن بنيتها الثقافية والروحية.
الدراما.. والغزو الثقافي
عوامل عدة تفاعلت في المجتمعات العربية وأنتجت أزمة حقيقية في الهوية الثقافية للفرد المسلم، الذي أصبح يعيش حالة من الصراع بين الوافد الثقافي الغربي الذي تغلغل في منظومته القيمية بما يحمله من اغتراب عن الفطرة التي خلقه الله تعالى عليها وعززتها وسائل التربية في المحيط الأسري والمدرسي والمسجدي، التي تراجع دورها كثيراً في السنوات الأخيرة؛ مما أنتج خللاً بنيوياً في الأنساق القيمية التي كانت سائدة.
وفي ظل تراجع دور المؤسسات التعليمية والدينية والأسرية، جاءت الدراما كأحد أخطر العوامل الغازية بما تحمله من مضامين ورسائل سلبية، وبجرعاتها المكثفة واليومية بين ما يعرض منها بالوسائل التقليدية (السينما، التلفزيون، المسرح)، وما يعرض على منصات «النيوميديا»، فالدراما تعد مصدراً أساسياً لاكتساب السلوكيات الإيجابية والسلبية على حد سواء.
والراصد للمنتجات الدرامية بمختلف وسائلها سيجد أنها عززت خلال السنوات العشر الأخيرة من الفوضى الأخلاقية والسلوكية، بنشرها مضامين ورسائل تحض على التطبيع مع التفكك الأسري، والعنف، والانحرافات السلوكية (زنى، مخدرات، مساكنة)، والتشكيك في جدوى مؤسسة الزواج، والتطبيع مع فعل قوم لوط (مصطلح المثلية الجنسية)، وإضعاف وتهميش دور الأب ورجل الدين، والسخرية من الأحكام الشرعية ومظاهر السُّنة النبوية، والتشكيك في بعض الأحاديث كمنطلق لهدم السُّنة المطهرة، والاستهتار بقيم العفة والطهارة والعذرية، والسخرية من كل المؤسسات الدينية، فيما عدا مؤسسة الكنيسة.
على الهيئات الدينية إنشاء مؤسسات إنتاجية لأعمال درامية تواجه مخططات التغريب والغزو الثقافي
ما تحدثنا به عاليه يقدم في الدراما المصنوعة عربياً، فإذا تطرقنا لجرعات التعرض للدراما المدبلجة عن الهنود، والكوريين، أو الدراما المترجمة عن الأمريكيين؛ فإننا إذاً أمام حالة من التشكيك في العقيدة الإسلامية، وتشويه صورة الإله الخالق سبحانه التي نشأ عليها المسلم من خلال تربيته العقائدية، ليصل الأمر إلى تمجيد الشيطان والإلحاد والبوذية وكل أصنام الهنود ومعابدهم وانحلالات الأسرة بما تحمله من قيم تتوافق مع عقائدهم، والترويج للرجل الأبيض كبطل خارق مهيمن يستطيع أن يهزم الكون بما لديه من علوم وأسلحة، وتصويره كحارس لقيم البشرية وراعٍ لحرية الفرد وإن تعدت على حقوق الآخرين، فهو الراعي لحرية الانحلال والسعار الجنسي.
ثقافتنا معيارية
إن النظام الذي يحكم الثقافة الإسلامية نظام معياري يمكن قياسه على الأفراد والمجتمعات، فهو قائم على بنية تفكير اشتراطية تجعل احتياز السعادة الأخروية الدائمة، والدنيوية الزائلة، مرتهناً باتباع القوانين التي سنَّها الله عز وجل في كتابه وبيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المطهرة، فمدى تمسك المجتمعات وقربها من تلك البنية المعيارية هو مقياس التماسك في مواجهة الغزو الثقافي أو الهزيمة أمام الهجمة التي تجتاح تلك المجتمعات.
الأمر الذي يحتم على المؤسسات الدينية التحرك لاحتواء الخلل الذي بدأ يظهر في شباب الأمة، خصوصاً أنهم الأكثر عرضة للمتغير النسقي في منظومة القيم، فقد أثبتت الدراسات أن الشباب هم الأكثر تعرضاً للدراما والأكثر تأثراً واغتراباً وتقليداً لما يعرض عليه ويشاهده عبر المنصات المختلفة، دون أن تكون هناك منتجات تواجه ما يبث له ويسحبه من قناعاته وانتماءاته.
ولا نقصد هنا أن تزيد المؤسسات الدينية من جرعات الوعظ وتصدير الدعاة والعلماء في القنوات والمساجد والمحافل العامة، فكل هذه المنصات التقليدية غير جاذبة للشباب، ولكن على المؤسسات الدينية أن تسعى لوضع خطة تعمل على إنشاء المؤسسات الإنتاجية التي تنتج أعمالاً درامية تواجه مخططات التغريب والغزو الثقافي.
ولا بد أن يسبق هذا العمل قيام تلك المؤسسات بعمل دراسات بحثية لمسح القيم السلبية التي زرعت في المجتمعات المسلمة، وتفنيد المضامين والرسائل التي تم تصديرها لمجتمعاتنا وقياسها على النسق القيمي الإسلامي، والخروج بالرسائل العكسية التي يجب إعادتها، ومن ثم اللجوء للمبدعين ليتم تحويل هذه الدراسات إلى منتجات درامية، ثم طرح اكتتاب عام للأمة لتمويل الإنتاج الدرامي واعتبار أن هذه المساهمة جزء من سهم الجهاد.