إذا كنت ممن أجبرته الظروف طوعاً أو كرهاً على مغادرة بلده لتبدأ حياة جديدة في بلد جديد، فأنت في حاجة إلى أن تقرأ جيداً ما بين السطور في هجرة الحبشة، عندما تفكر في اختيار بلد المهجر فعليك أن تتأمل بعمق في الأسباب التي دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار الحبشة دون غيرها.
احذر أن يكون السفر أو الهجرة هدفاً في حد ذاته، فهجرة الحبشة لم تكن مغامرة إلى المجهول، وضع النبي عليه الصلاة والسلام معايير واضحة أسهمت في اختياره تلك الأرض، وذلك لسابق معرفته بالحبشة من خلال حاضنته أم أيمن، فعرف منها طبيعة أرضها ومجتمعها وحكامها، عاشت أم أيمن هناك فترة طويلة لدرجة أنها لم تستطع أن تغير لكنتها الحبشية، فكانت تقول: سلام لا عليكم، فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: «السلام»، وفي حديث الزهري: أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إليها.
أول تلك المعايير التي اعتمدها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو الأمن، ففي تلك المرحلة لا يوجد في داخل الجزيرة العربية مكان آمن يمكن أن يلجأ إليه المسلمون، فقريش تُحكم سيطرتها على مكة وما جاورها، ولها قدر كبير من النفوذ التجاري لأنها تتحكم في قوافل التجارة، وكذلك النفوذ الديني من خلال وجود الكعبة، وبالتالي فالحبشة بعيدة عن سطوة قريش، ولجوء المسلمين إليها يحقق لهم الأمان والطمأنينة من بطش قريش.
أما ثاني المعايير التي ينبغي تحققها فهو استقرار وقوة النظام السياسي بما يضمن استقلالية قرارات بلد المهجر والتزامه بحماية من لجأ إليه من المضطهدين، كانت الحبشة مملكة قوية ومستقلة، ورغم أنها كانت تتبع الكنيسة المصرية في الإسكندرية، فإنها كانت تبعية دينية وليست سياسية، فقد بلغ سلطانها مبلغاً كبيراً في تلك الفترة، وهو ما يصعب من احتمالية استجابة الحبشة للضغوط السياسية، كما يصعب من احتمالية أن تقدم قريشاً على غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين منها كما فعلت في غزوة «الأحزاب»، فقوة الحبشة وقوة ملكها إضافة إلى بعد المسافة وحاجز البحر حالت دون التفكير في ذلك، وكان أقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن تبعث المندوبين وتطلب بشكل رسمي تسليم اللاجئين، وهو ما تم رفضه لاحقاً.
أما المعيار الثالث لاختيار أرض المهجر فهو القدرة البدنية والنفسية على تحمل تبعات الغربة، فهجرة الحبشة الأولى التي وقعت في السنة الخامسة من البعثة النبوية ضمت 11 رجلاً و4 من النساء، فيما جاءت الهجرة الثانية بعد الأولى ببضعة أشهر وضمت 97 رجلاً و19 امرأة و6 أطفال، وعند النظر بإمعان وتحليل المعلومات الخاصة بكل من هاجر إلى الحبشة نستخلص ما يلي:
أولاً: لا نجد في قائمة أسماء المهاجرين أحداً من الصحابة الذين نالهم أذى قريش كعمار، وبلال، رضي الله عنهما، بل إننا حين نتفحص قائمة أصحاب الهجرة الأولى نجدهم من أصحاب النفوذ والمكانة في قريش، وبالتالي نستنتج أن الهدف الرئيس للهجرة لم يكن من أجل النجاة بالنفس فقط، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس قوة ومنعة من المسلمين، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على الحفاظ على الدين الناشئ من خلال وجود رصيد احتياطي من المسلمين الذين قد تحتاجهم الدعوة في مرحلة لاحقة، بالإضافة الي الدور المهم والمطلوب في نشر رسالة الإسلام في بقاع جديدة من الأرض.
ثانياً: بلغت نسبة الشباب والبالغين من عمر 20 إلى 50 عاماً ما يقارب الثلثين من إجمالي المهاجرين، فيما لم تتجاوز نسبة كبار السن فوق الخمسين عاماً 3%، فمرحلة الشباب أقدر على تحمل صعوبة الرحلة ومجابهة الأخطار المتوقعة في المهجر، كما بلغ عدد النساء المهاجرات 19 امرأة بنسبة 18% من إجمالي عدد المهاجرين، وهو عدد معقول قياساً على ما كان متوقعاً من صعوبات وتحديات في السفر والمهجر، وكل النساء هاجرن مع أزواجهن في سن الشباب، والبعض منهن أنجبن في الحبشة، ليكون ذلك إيذاناً بمولد جيل جديد نشأ وترعرع في أرض المهجر.
أما رابع المعايير التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وسلم فهو العدل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد»، وتشير بعض المصادر إلى أن عدل النجاشي بلغ حداً تحتكم إليه قريش في خصومتها، ولعل موقف النجاشي المعروف حين رفض رشوة قريش لترحيل المسلمين مرتبط بقصة الظلم الذي وقع عليه تاريخياً من الأحباش، وحينها قال مقولته الشهيرة بعد لقاء وفد قريش برئاسة عمرو بن العاص: «ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه».
ولتلك المقولة قصة طويلة وغريبة روتها بالتفصيل السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد كان النجاشي هو الابن الأوحد حينما تولى أبوه ملك الحبشة، وكان للنجاشي عم، وله من صلبه اثنا عشر ولداً، فتآمرت مجموعة على قتل الملك وتنصيب أخيه رغبة في استمرار نسله وأولاده، ونتيجة لذلك فقد نشأ النجاشي مع عمه، ونزل منه بكل منزلة، فكانت المؤامرة الثانية بانتزاعه من عمه وبيعه في سوق الرقيق، وتشاء الأقدار أن يموت عمه بعد أن أصابته الصاعقة في ذات اليوم، ولم يكن أياً من أولاده له القدرة على تولي الملك، فخرج الناس في طلب النجاشي، حتى أدركوا الرجل الذي اشتراه فأخذوا منه النجاشي، وعقدوا عليه تاج الملك، فجاءهم التاجر وقال: إما أن تُعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك، قالوا: لا نعطيك شيئاً؛ قال: إذاً والله أكلمه؛ قالوا: فدونك وإياه، فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاماً من قوم بالسوق بستمائة درهم، فأسلموا إليّ غلامي وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرت بغلامي أدركوني، فأخذوا غلامي، ومنعوني دراهمي، فقال لهم النجاشي: لتُعطنه دراهمه، أو ليضعن غلامه يده في يده، فليذهبن به حيث شاء؛ فقالوا: بل نعطيه دراهمه، ومن هنا جاءت مقولة النجاشي: «ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه»، التي تظهر الجانب الآخر من شخصية النجاشي بعدما مر بالعديد من التجارب التي أثرت كثيراً في حياته وصنعت منه القائد القوي العادل.
قبل أن تفكر في الرحيل عن وطنك عليك أن تتذكر هذه المعايير الثلاثة التي جعلها الرسول عليه الصلاة والسلام مرجعاً عند اختيار بلد الهجرة، اصنع لنفسك أهدافاً محددة وابحث عن بلد آمن مستقر اقتصادياً وسياسياً وتعلو فيه قيمة العدل، كما يجب أن تتأكد من قدرتك النفسية على تحمل تبعات السفر والغربة، فكل ذلك يساهم بشكل كبير في نجاح تجربتك في المهجر وتحقيق أهدافك التي تسعى إليها.