لم تعد السلطة ولا المجتمع ولا سطوة التاريخ والأيدولوجيا هم الذين يشكلون الهوية في العصر الرقمي، فتكنولوجيا المعلومات المتسارعة الخطى، والذكاء الاصطناعي الذي يزيح الإنسان عن مواطن هيمنته ونشاطاته، والساعات الطوال التي يقضيها البشر أمام الشاشات، خاصة المراهقين باتت من أهم محددات تشكيل الهوية في اللحظة الراهنة.
الاندماج العميق في العالم الافتراضي لا يلغي الحاجة للانتماء، إذ تظل الهوية في حالة تشكل مستمرة ومتجددة، وتظل تعبر عن نفسها باستمرار وبأشكال مختلفة ومتنوعة استجابة للآخر التي تقابله، وتفاعلاً مع التحديات التي تواجهها.
كانت الهوية في السابق تتكون في رحاب الدين، ومن خلال العرق والدم والأرض والتاريخ واللغة، ورغم أن تلك هي أهم الركائز التقليدية لتشكيل الهوية، فإن العصر الرقمي دس أنفه في تلك الركائز وفرض تحدياته عليها، وأعاد تشكيل الكثير من الأسس التي تقوم عليها بأسلوب جديدة وطرق تعبير مختلفة، وبقيم أكثر انفتاحاً على التغير؛ لذا كانت الهوية في العصر الرقمي من أكثر الأمور تعقيداً في تشكلها وفي تعبيرها عن نفسها، وكذلك في الخطورة الكامنة فيها.
أزمة العقود القادمة
في تقرير «الاتجاهات العالمية حتى العام 2040»(1)، الصادر في مارس 2021م، عن أجهزة الاستخبارات الأمريكية، الذي يرصد بؤر التوتر المقبلة في العالم، حظيت الهوية باهتمام واضح، فقد توقع التقرير أن تشهد الفترة القادمة تنشيطاً للهويات ما دون الوطنية، وهو يمثل تحدياً للانتماء الذي قامت عليه الدولة القومية، كذلك توقع أن تبرز الهويات ما فوق الوطنية تحت تأثيرات العولمة والرقمية، وأن حالة التشرذم وتنامي التنافسية في المجال الاقتصادي والسياسي والثقافي ستخلق أزمة ثقة بين المواطن والمؤسسات والحكومات التي لن تستطيع أن تُلبي تلك الاحتياجات، وستنشأ أزمة هوية، مع بحث مجموعات من السكان عن مشاركة آخرين لهم نفس الأفكار والرؤى، وسيؤدي الجمع بين الهويات الجديدة وبيئة المعلومات المنعزلة إلى الكشف عن التصدعات داخل الدول، وتقويض القومية المدنية وزيادة عدم الاستقرار؛ أي أن الرقمية ستكون مصدراً للهويات القلقة.
كما توقع التقرير أن تسهل وسائل التواصل الاجتماعي على الأشخاص التواصل مع الأشخاص الذين يشاركونهم نفس الخصائص والآراء في جميع أنحاء العالم، خاصة إذا أدركنا أن الهويات توفر إحساساً بالانتماء وتعزز المعايير حول كيف تصرف تلك المجموعة، والقواعد الواجب الالتزام بها، وتوفر منظومة من الرؤى والمعتقدات حول القضايا المعقدة، لذا فإن الكراهية والجريمة السياسية قد تغذيها وسائل التواصل الاجتماعي، والإشعاعات المستندة إلى الهوية في العالم الرقمي قد تفجر العنف المرتكز على الهوية.
التكنولوجيا الرقمية أحدثت تغيرات في هوية الإنسان ذاته، خاصة مع تغول الذكاء الصناعي على المجالات الإنسانية، لكنَّ هناك مجالاً يغفل عنه الكثير في العالم الرقمي، وهو من عوامل تشكيل الهوية؛ وهو الترفيه، وخاصة ألعاب الفيديو، ففي دراسة نشرتها «المجلة الأوروبية للدراسات الثقافية» عام 2019م، تحدثت عن تسرب العامل الديني إلى ألعاب الفيديو، التي أخذت في تشكيل مفهوم «الأنا» و«الآخر»، حيث منحت تلك الألعاب المُختلف الديني شكلاً وصفات مختلفة؛ وهو ما يعني أنها تساهم في تشكيل الهوية، فتعزز هوية تلك المجتمعات الغربية التي تصفها بالمتحضرة والمدافعة عن الإنسان والمُثل، في مقابل مجموعات همجية من المجتمعات الأخرى البربرية المهددة للبشرية التي تستحق السحق بلا رحمة.
وهي دراسة طورها لارس دي ويلدت في كتابه «لاهوت البوب لألعاب الفيديو»(2)، الصادر 2023م، حيث أشار إلى حقيقة مهمة؛ وهي أن غالب الشباب سيواجه الدين في ألعاب الفيديو أكثر من أماكن العبادة، وأن ألعاب الفيديو جذابة للجماهير الحديثة، لذا أطلق عليها «لاهوت» لدورها المؤثر في إعادة الأشخاص العاديين النظر في الكثير من المسائل الدينية، فالهوية ستتأثر بما يقوم به الأشخاص في تلك الألعاب، وقضايا الإيمان والأديان سترسم معالم الهويات، مع تحول تلك الألعاب لتجارب صراعية تُجرى أما أعين اللاعبين وبأيديهم.
ونشير هنا إلى أن حجم السوق العالمية للترفيه عبر الإنترنت بلغ 442.6 مليار دولار في عام 2023م، أما حجم سوق ألعاب الفيديو العالمية فبلغ 217.06 مليار دولار في عام 2022م، والأهم وحسب إحصاءات عام 2024م فهناك 3.32 مليارات لاعب حول العالم؛ أي أن الألعاب ذات تأثير فعال في تشكيل الهوية لمئات الملايين حول العالم.
ولعل ما يرتبط بقضايا الهوية هو انتشار جرائم الكراهية والتعصب في العالم الرقمي، التي يتم فيه شيطنة مجتمعات وأديان على أساس الهوية؛ بل تنتقل في كثير من الأحيان تلك الكراهية إلى تنمر على الإنترنت، وأعمال عنف في الواقع، وتؤكد دراسات أن الصراعات التي تنشأ من وسائل التواصل تتحول إلى صراعات حقيقية، تشارك الكثير من الأطراف، خاصة أن التكنولوجيا الرقمية غيَّرت من نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين، وكذلك غيَّرت الطريقة التي يعبر بها الناس عن هوياتهم، لكن الأهم أن الهوية في العالم الرقمي تُبنى بتفاعل الفرد مع بيئته في العالم الافتراضي، خاصة أن الرقمية تحولت إلى وسيط جديد لتحقيق الذات والهوية، ففي العالم الرقمي، في كثير من الأحيان، تنفتح هوية الفرد على الثقافات الأخرى وهو ما يطور الهوية ويعيد تشكيلها بصورة أكثر انفتاحية، لكن في أحيان أخرى يعبر الفرد عن هويته بصورة صدامية.
الرقمية مهرباً للهوية
تؤكد دراسات أن الرقمية قد تكون مهرباً ومتنفساً للهويات التي تعاني العزلة والاضطهاد، فيجد الشخص في الرقمية متنفساً لهويته المكبوتة المضطهدة، خاصة أن الإنترنت يتيح للشخص التخفي؛ لذا يعبر عن هويته بجلاء وبكل ما تجول به نفسه من أفكار حتى ولو كانت صادمة للمجتمع، لذا نلاحظ أن البعض يعبر عن هويته تحت أسماء مستعارة ليطرح القضايا المرتبطة بهويته، وربما هذه الحالة توقع الفرد في تنافر بين هويته المكبوتة في عالم الواقع، وهويته التي يفصح عنها في العالم الرقمي.
وإذا استدعينا هذه النتيجة سنجد أن المراهقة تعتبر من الفترات الحرجة في صياغة الهوية، ومن أهم الفترات التي يتعرض فيها الشخص لأزمات تتعلق بالهوية، وتتخذ المعاناة فيها أشكالاً مزعجة من الإحساس المتطرف بالهوية، وصولاً إلى تشتت الهوية، هذه المعاناة تخلق عزلة اجتماعية، وتتيح الرقمية مجالاً رحباً للخروج من تلك العزلة نحو الفضاء الرقمي، وأظهرت دراسات أن المراهقين يقضون قرابة 7 ساعات متصلين بالإنترنت.
وحسب نظريات الفيلسوف الكندي المتخصص في علوم الاتصال مارشال ماكلوهان، فإن الوسيلة هي الرسالة، فالتكنولوجيا الرقمية تكاد أن تصبح رسالة في حد ذاتها، وامتداداً للملكات البشرية، فكل وسيلة تعيد تشكيل تصورنا للواقع، ومع الرقمية يعيد الإنسان تعريف هويته.
ويلاحظ في العالم الرقمي أن الثقافة الشفهية أو ثقافة الصورة، التي تبث فيها الفيديوهات والبودكاست والصور هي المتغلبة على الثقافة المكتوبة، فالصورة باتت المتحكم الأهم في العالم الرقمي، وفي صياغة الهوية، فنجد مثلاً، حسب إحصاءات عام 2023م، فإنه يتم بث 720 ألف ساعة من مقاطع الفيديو يومياً على الإنترنت، وينشر 95 ميلون صورة ومقطع فيديو يومياً على الإنترنت؛ وهو ما يعني أن الصورة والفيديو من العوامل الجديدة لتشكيل الهوية في العالم الرقمي.
________________________
(1) صدرت ترجمة للتقرير عن مركز الرافدين للحوار في بيروت عام 2021م.
(2) The Pop Theology of Videogames.