السودان بحدوده الجغرافية قبل انفصال الجنوب في عام 2011م نتاج غزو الخديوي محمد علي باشا، حاكم مصر (1805 – 1849م)، صاحب النزعة التوسعية الطامح في تأسيس إمبراطورية خاصة تحت غطاء الخلافة العثمانية، كان غزوه للسودان في عام 1821م بجيش قاده ابنه إسماعيل باشا وصهره محمد بك الدفتردار، ويمكن تلخيص أهداف محمد علي باشا من ذلك الغزو في:
1- هدف عسكري يتمثَّل في البحث عن رجال لدعم جيشه الذي سيوطد حكمه ويبني إمبراطوريته.
2- هدف اقتصادي غايته البحث عن الذهب في أقصى جنوب شرق السودان (جزء من تلك المناطق يتبع لدولة إثيوبيا حالياً).
3- هدف أمني يعمد إلى تأمين منابع النيل.
منذ الاستقلال دخل السودان في حلقة دائرية مستحكمة من الاضطرابات تبدأ لتعود من جديد!
قضى جيش محمد علي على ممالك كانت في شمال السودان، ثم قصد إسماعيل باشا وسط السودان للقضاء على سلطنة «سنار» الإسلامية، وسط وجنوب شرق السودان الحالي، التي قامت بعد سقوط الأندلس بـ12 عاماً فقط في عام 1504م واستمرت زهاء 3 قرون، فيما توغل الدفتردار فسيطر على غرب وسط السودان وجنوبه الحالي.
ثم ورثت الدولة المهدية حكم السودان بعد انتصارات متتالية وفتوحات انتهت بتحرير الخرطوم في العام 1885م، وكأن المهدية كانت إلى الثورة أقرب منها إلى الدولة، إذ نجحت في التحرير بقيادة إمامها الملهم محمد أحمد المهدي، لكنها في بناء الدولة وتأسيسها وتحقيق الاستقرار السياسي والرضا والتوافق المجتمعي لم تحقق نجاحاً كبيراً، وخاصة بعد فقد قائدها الذي توفي بعد إنجاز التحرير بزمن قصير.
ثم سقط السودان كله تحت الحكم الإنجليزي الذي تدثَّر بثنائية مع مصر زائفة، لكن في حقيقة الأمر كانت مصر نفسها تحت حكم الإنجليز، استمر ذلك الحكم من 1899م العام الذي أسقط فيه الإنجليز حكم خليفة المهدي حتى عام 1956م (57 عاماً).
ما بعد الاستقلال
وما إن نال السودان استقلاله حتى ظهرت آثار كيد المستعمر ومكر ليله ونهاره، فاندلع تمردٌ في جنوب السودان في عام 1955م، وتباعد ما بين شمال السودان وجنوبه بخطة استعمارية فصلت بين الشمال والجنوب بقانون «المناطق المغلقة»؛ حيث مُنِع التحدث باللغة العربية، ومُنِع لبس الأزياء الإسلامية، ومُنِعت الدعوة للإسلام، في الوقت ذاته الذي سُمِح فيه للكنائس الغربية أن تعمل، ولحملات التنصير أن تتحرك في حرية كاملة، وقد استمر هذا الوضع حتى حكم الرئيس عبود (1958 – 1964م).
من أبرز المشكلات أن الأحزاب السياسية السودانية كانت تصل إلى السلطة في زي العسكر!
ومنذ الاستقلال دخل السودان في حلقة دائرية مستحكمة من الاضطرابات تبدأ لتعود من جديد؛ فترة ديمقراطية ينقلب عليها عسكر، ثم يسقط حكم العسكر بانتفاضة شعبية لتأتي فترة ديمقراطية جديدة ينقلب عليها عسكرٌ جدد ثم تستمر الدائرة، وما من شك أن في هذا شاهداً على فشل النخب السودانية جميعاً المدني منها والعسكري في التوافق السياسي، لكن يد الخارج لم تكن غائبة في تلك الفترات جميعاً، وقد عمدت تلك اليد إلى سياسة استنزاف للسودان وإرهاقه أبداً، وكأن الوضع الذي لا يريد أصحابه أن يروا السودان في سواه هو وضع الاضطراب السياسي، الاضطراب الذي لا تقوم معه نهضة ولا يتحقق معه نماء ولا يكون معه استقلال قرار في سياسة ولا اقتصاد.
الأزمة الحالية
لفهم الأزمة الحالية في السودان يحتاج المتابع أن يلتفت إلى جملة حقائق وإضاءات، من تلك الحقائق طبيعة الجيش السوداني وتاريخه، فالجيش السوداني ترتيبه 75 عالمياً، و11 عربياً، وقد ظل الجندي السوداني مطلوباً دائماً لشجاعته وبسالته وانضباطه العالي، فرنسا، مثلاً، استعانت بأورطه (كتيبة) سودانية في عام 1863م قوامها 435 جندياً بالاتفاق مع الخديوي في مصر، عاد منهم إلى السودان بعد 4 سنوات فقط 313 جندياً بعد استشهاد 140 في حرب استقلال المكسيك الذي كانت تدعمه فرنسا.
وشارك الجنود السودانيون في الحرب الأولى مع الحلفاء، ولكن سلطان دارفور علي دينار الذي ظل مستقلاً بدارفور أقصى السودان عن الاستعمار الإنجليزي انحاز للقتال مع الخلافة العثمانية، فتمت معاقبته وقُتِل في عام 1916م، وضُمَّت دارفور بعده إلى الاستعمار الإنجليزي.
كانت الأحزاب السياسية السودانية تصل إلى السلطة في زي العسكر؛ أي أنها كانت تعمل داخل المؤسسة العسكرية، هذا الأمر لم يتخلَّف عنه حزب من الأحزاب من اليمين أو اليسار، وهذا النشاط الحزبي داخل المؤسسة العسكرية إن لم ينجح في الوصول إلى السلطة، فقد أحدث فيها بعض توترات، وإن نجح فقد أرهقها بأعباء الحكم وأثقال تصريفه وهواجس تأمينه.
وهذا كله لا شك أقعد الجيش السوداني الذي كان مؤهلاً ليكون متقدماً جداً في كل ما يتصل بتطوير الجيوش بالنظر إلى طبيعته وإمكانياته، هذا الأمر استمر في كل عهود سودان ما بعد الاستقلال، ومهما يكن من نقد لتجربة الإنقاذ ولوضع المؤسسة العسكرية على زمانها، فإن الناظر المتجرد لاجتهادات التصنيع الحربي في هذه الفترة يُقِرّ بنجاحات حقيقةٍ بالاحتفاء، وربما كانت حقيقة كذلك بالتفات الخارج الذي تسوؤه محاولات الاستقلال في التصنيع ويزعجه أكثر أن يكون تصنيعاً حربياً، وهو المجتهد أبداً في إضعاف جيوش المنطقة العربية والأفريقية.
السودان دولة عظمى في الموارد فقيرة جداً على أرض الواقع بعدد سكان لا يتجاوز 45 مليون نسمة
من الحقائق والإضاءات كذلك لفهم طبيعة الأزمة السودانية الحالية التعرف إلى موارد السودان التي ظلت محل أطماع من قديم، وليس من ضروب المبالغة والتضخيم أن يقول قائل: إن السودان تجتمع له من الموارد ما لا يجتمع عند غيره، المورد الواحد منها كافٍ لنهضة السودان وضامنٌ لرفاهية شعبه لو تحقق له استقرار سياسي.
أرض الثروات
فالسودان يجتمع عنده من ثروات باطن الأرض الذهب واحتياطيات من الفضة والمايكا والتلك والمنجنيز والكروم والبلاتين والنفط والغاز.
ثم هو يملك 84 مليون هكتار صالحة للزراعة، المستغل فعلياً منها 20% فقط أو أقل، وهذه الـ20% نفسها أكثر من 80% منها يعتمد على الري المطري في بلد يشقه أطول أنهار القارة الأفريقية وأعظمها، وفيه سوى النيل أنهار أخرى، وله مصادر مياه من غير الأنهار.
والسودان له من ثروات الأنعام 30 مليون رأس من الأبقار غير مستغلة الاستغلال الأمثل في إنتاج اللحوم ولا الألبان، وفيه 40 مليون رأس من الأغنام غير مستغلة كذلك أحسن استغلال في إنتاج اللحوم ولا الألبان، وقل مثل ذلك في 32 مليون رأس من الماعز، ثم له 15 مليون رأس من الإبل أكثرها يُصدَّر للخارج لجودة لحومها ولمهارتها في السباقات بدرجة أقل.
وفي السودان تعدد في المناخ وتنوع فيه يتيح ألواناً شتّى من النشاط الرعوي أو الزراعي، وفيه ثروة سمكية، وغير خافٍ أن السودان هو المصدر الأول للصمغ العربي الذي لا تستغني عنه صناعة من الصناعات في العالم.
إذن، نحن نتحدث عن دولة عظمى في الموارد، فقيرة جداً على أرض الواقع، وبعدد سكان لا يتجاوز 45 مليون نسمة.
«الدعم السريع» اللاعب الجديد
لكن الجديد في مشهد الأزمة السودانية الحالية هو «قوات الدعم السريع»، وعمودها الفقري وأساسها قوة قبليّة (عربية من دارفور) تم إنشاؤها في عام 2013م في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير بعد انفصال الجنوب وفقدان بتروله وازدياد نشاط الحركات المتمردة في دارفور (عدداً ومساحة)، وكانت معظم الحركات المتمردة من إثنيات أفريقية غير عربية ولها عداء مع عرب الجوار.
مع بداية الحرب سيطر «الدعم السريع» على غالب أنحاء العاصمة السودانية والمرافق العسكرية
بعد الانتفاضة أو الثورة على نظام البشير في عام 2019م وحتى الحرب في 15 أبريل 2023م تعاظم دور «الدعم السريع» فصار:
1- أكبر قوة اقتصادية في البلاد (تصدير الذهب واللحوم الحية والمذبوحة والمنتجات الزراعية)، ويستورد كل شيء تقريباً حتى القود.
2- أقوى قوة عسكرية، وسيطر على كل المرافق الإستراتيجية بالعاصمة، وصار يملك كل أنواع الأسلحة عدا الطيران.
3- علاقات دولية إقليمية وعالمية خارج مؤسسات الدولة.
4- دور سياسي؛ حيث صار قائد «الدعم السريع» الرجل الثاني في المؤسسة الرسمية والائتلاف الحاكم لشريكي الحكم العسكريين والمدنيين منذ عام 2019م حتى الحرب.
مع بداية الحرب في 15 أبريل 2023م، سيطر «الدعم السريع» على غالب أنحاء العاصمة السودانية وعلى غالب المرافق العسكرية، عدا القيادة العامة والمدرعات بالخرطوم ومنطقتي المهندسين وكرري بأم درمان وسلاح الإشارة ببحري؛ لأنه كان الأكثر استعداداً عدة وعتاداً، ولأن أكثر المواقع الإستراتيجية التي احتلها كان هو فيها ابتداء من قبل الحرب بدعوى حراستها، كل ذلك كان في الأشهر الأولى من الحرب.
متغيرات كثيرة حدثت مع تطاول أمد الحرب في الميدان العسكري وفي موازين القوى، لكن الذي لا شك فيه أن الحرب قد استنزفت موارد الدولة الضعيفة ابتداءً، وبلغت خسائر الدولة والقطاع الخاص والمواطن قرابة 200 مليار جنيه خلال العام الأول.
وقد نزح 8.1 ملايين إلى داخل السودان (إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش)، ولجأ وهاجر 2.25 مليون مهاجر للبحث عن الأمن وعن فرص للعمل وكسب العيش.
هذا فضلاً عن قرابة 13 ألف قتيل من القوات المسلحة، و100 ألف قتيل من «الدعم السريع»، وعدد كبير من القتلى والجرحى من المدنيين، إلى جانب 507 حالات اغتصاب موثقة (معظم الحالات لا يتم التبليغ عنها) كل الحالات الاتهام فيها موجه لأفراد من «الدعم السريع».
ناهيك عن دخول لبيوت المواطنين ومتاجرهم ومحلات أشغالهم ونهب لممتلكاتهم، وتقدر السرقات فيها بـ203 آلاف سرقة، كل هذه السرقات الاتهام فيها من المواطنين موجه إلى أفراد من «الدعم السريع».
كل هذا أورث وضعاً إنسانياً معقّداً جداً وصعباً في غياب شبه كامل من المؤسسات الإغاثية والصحية العالمية وانشغال العالم بالحرب الأوكرانية والحرب ضد قطاع غزة.
الحرب الآن من «الدعم السريع» المدعوم من دول إقليمية وعالمية تهدف إلى تقسيم السودان
فالحرب التي تدور رحاها الآن في السودان حرب على الدولة من «قوات الدعم السريع» المدعومة من دول إقليمية وعالمية بهدف تقسيم السودان، وعلى هذا فليست الحرب بموجهة فقط ضد جيش السودان، بل ضد السودان جميعاً؛ أرضاً وإنساناً، واعتداءات «الدعم السريع» التي تقع على المدنيين في المناطق التي ليست فيها معارك عسكرية، بل ليس فيها من الأساس قوة عسكرية شاهدة على هذا، وقع هذا في ولاية الجزيرة وفي ولاية غرب دارفور من قبل، وفي المثالين انسحبت القوات المسلحة فاستباحت «قوات الدعم السريع» كل شيء، وأعملت في الناس القتل، وتوجّهت إليهم بالنهب والسلب؛ الأمر الذي جعل المواطنين في الولايات الأخرى يتجهون إلى حمل السلاح وينتظمون في المقاومة الشعبية وفي حملات الاستنفار العام لحماية دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
الخيارات المحتملة لنهاية الحرب
1- الذهاب إلى تفاوض كما حدث العام الماضي (منبر جدة) الذي لم يلتزم «الدعم السريع» بما تم الاتفاق عليه في الاتفاق الأوّلي.
2- أن تنتصر القوات المسلحة ولو بعد حين وبتكلفة عالية، فيخرج «الدعم السريع» من العمل السياسي والعسكري، وهذا بالطبع الخيار الأمثل للجموع الغالبة من الشعب السوداني.
3- أن ينتصر «الدعم السريع»، وهذا أسوأ احتمال وشر غائب ينتظر، وحينها سيتم تقسيم السودان إلى 4 دويلات متصارعة؛ مما يمثِّل تهديداً للإقليم بصفة عامة ولدول الجوار بصفة خاصة.