أخرج البيهقي، وابن إسحاق، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَن قَامَ فيهم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ، لَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالًا وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَاَلِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ».
وقال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى فقال: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وأستعينه نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ إِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ أَحِبُّوا مَنْ أَحَبَّ اللهُ، أَحِبُّوا اللهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ وَلَا تَمَلُّوا كَلَامَ اللهِ تَعَالَى وَذِكْرَهُ وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّهُ مِنْ كُلٍّ يَخْتَارُ اللهُ وَيَصْطَفِي فَقَدْ سَمَّاهُ خِيرَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كُلِّ مَا أَتَى النَّاسُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فاعَبْدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَأَصْدِقُوا اللهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابُّوا بِرُوحِ اللهِ بَيْنَكُمْ، إِنَّ اللهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وبركاته»(1).
إن الناظر في هاتين الخطبتين اللتين بدأ بهما النبي صلى الله عليه وسام خطابه للناس في المدينة بعد الهجرة، يجد أنهما تمثلان منهجاً دعوياً وتأسيساً حضارياً مهماً لقيام الحياة الإسلامية في مرحلتها الجديدة، وتتبين معالم المنهج النبوي فيهما من خلال النقاط الآتية:
أولاً: الجمع بين موضوعات الإسلام وقضاياه:
استوعبت كلماته صلى الله عليه وسلم العقيدة الإسلامية والشريعة والأخلاق، التي يجب أن يعتنقها المسلم ويتعامل بها وتظهر في سلوكه وأخلاقه.
إنه يلفت النظر إلى ما يجب على العبد تجاه ربه من المحبة، والاعتصام بكتابه، وعدم الملل منه، كما يلفت النظر إلى تقوى الله وعبادته وحده لا شريك له، ثم يسوق أموراً تتعلق بالشريعة الإسلامية، حيث يلفت النظر إلى حسن العبادة لله تعالى والتمسك بالحلال واجتناب الحرام، ثم يدعو إلى التمسك بالأخلاق الحميدة، فيأمر بالوفاء مع الله ومع الناس ثم يحثهم على المحبة فيما بينهم بشرط خلوصها لله تعالى.
ثانياً: الدعوة إلى الإعداد لليوم الآخر:
اشتملت كلماته صلى الله عليه وسلم على التخويف من عذاب الآخرة، والدعوة لكل مسلم أن يقدم لنفسه ما ينجيه من النار، ولو كان ذلك بشيء قليل في نظره، كالتصدق بشق تمرة أو الحديث بكلمة طيبة، فهذه عظيمة عند الله تعالى.
ثالثاً: الحرص على إقامة المجتمع المسلم وتجنب ما قد يعترضه من عقبات:
إن هجرة الصحابة من مكة إلى المدينة لم تكن يسيرة بالقدر الذي يمر على الأذهان دون الوقوف مع القدرة على استيعاب هذا العدد الجديد في مدينة لا تكاد تكفي نفسها من الطعام والشراب، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد بها أناساً يمتلكون قلوباً تؤثر غيرها على نفسها، وهي الصفة التي امتدح الله تعالى بها الأنصار في قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
وإن الناظر في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنه يلفت أنظار المهاجرين والأنصار إلى ما يجب عليهم فعله في هذه المرحلة الخطيرة، حيث دعاهم جميعاً إلى الزهد في الدنيا والتقلل من الإقبال إليها أو الهجوم عليها، فذكرهم بالآخرة، وأوسع الكلام لذكر مظاهرها وأحداثها حتى يزهد الناس في الدنيا، وفائدة هذا الحديث بالنسبة للمهاجرين أن يصبروا على ما تركوه من أموال وتجارة في مكة، وما أقبلوا عليه من بلد جديد ليس لهم فيه شيء، حتى إن بعضهم قد جاء إليه لأول مرة في حياته.
كما تظهر فائدة هذا الحديث عن الآخرة بالنسبة للأنصار في تعزيز صفة الإيثار والعطاء للمهاجرين، حتى تتم كفايتهم، بل إنه صلى الله عليه وسلم حث على الوقاية من النار ولو بشق تمرة، بمعنى الشيء القليل، كما حث من لم يجد العطاء على حسن الكلام حتى لا يؤذي الصحابة بعضهم بعضاً بكلام قد يؤدي إلى إثارة النزاع في المجتمع.
رابعاً: حسن ذكر النِّعَم وتعظيمها:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث في خطابه الأول في المدينة المنورة عن تعظيم نعم الله تعالى، فالمهاجرون في نعمة عظيمة، حيث توفر لهم الأمن لإقامة العبادة بعد أن أنعم عليهم بنعمة الإسلام، كما لفت نظر الأنصار إلى تعظيم نعمة الله عليهم بأنهم أصحاب الأرض التي آوت النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت قيام الأساس الأول للدولة الإسلامية الجديدة، ولهذا كان حديثه صلى الله عليه وسلم في بداية خطبته بالحمد والثناء على الله تعالى شكراً لله على نعمته، ثم قوله: «قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي».
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟».
إن هذه الكلمات لتشعل في النفس امتناناً وشكراً لله تعالى على نعمة الإسلام، كما تدفع إلى التحرك من أجل دعوة الناس إليه وتمسكهم به، حتى ينجو الداعية والمدعو من عذاب الله تعالى، وينعمون بطاعته والفوز بجنته.
______________________
(1) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 525)، سيرة ابن هشام (1/ 501).