ما السبيل إلى نصرة إخواننا المستضعفين الذين يتعرضون للإبادة في قطاع غزة؟ الجواب ببساطة شديدة: السبيل هو الجهاد في سبيل الله إعداداً وإقامة، وأعني بالجهاد هنا الجهاد بمعناه الضيق (الجهاد العسكري)، والجهاد بمعناه العام الواسع (الذي يشمل إلى جانب الجهاد العسكري الجهاد السياسي والاقتصادي والإعلامي وغير ذلك).
في هذا السياق، يبرز الحديث عن حالة الوهن الشديد التي أصابت أمتنا؛ كتبرير لمستوى النصرة المتدنِّي وللخذلان، بل كتبرير للخيانة في بعض الأحيان.
وها هنا سؤال مفاده: برغم المنخفض الحضاري الذي تحياه الأمة لأسباب معقَّدة مركَّبة، هل نحن عاجزون حقًّا، سواء عن الجهاد أو عن الإعداد له؟ وأقصد بـ«نحن» أربعة مستويات: الفرد، والجماعة، والدولة، والأمة.
يحاول هذا المقال الإجابة عن هذا السؤال من خلال ثلاثة مداخل شرعية، توضِّح مدى القدرة أو العجز عن الجهاد في سبيل الله إعداداً وإقامة؛ لنستبين هامش الفعل (الجهاد) الذي يمكننا القيام به، ولنبصر مدى عذرنا من عدمه.
الأول: فرض الكفاية:
الأصل في الجهاد في سبيل الله والإعداد له أنهما فرض كفاية، وقد يصبحان فرض عين في حالات ينصُّ عليها الفقهاء.
ويُعَرَّف فرضُ الكفاية بأنه ما طلبت الشريعة فعله طلبا جازما من عموم المكلفين، (ليس من كل فرد بعينه)، إذا فعله من فيهم كفاية سقط الحَرَج (الإثم) عن الباقين.
وتشير طبيعة فرض الكفاية إلى أمرين مهمين، هما:
1- بناء على القول الصحيح عند الأصوليين، فإن فرض الكفاية يتعلق بجميع المكلفين ابتداء (موجَّه لكل مكلف ابتداء)، ويستمر هذا التعلُّق إلى أن يفعله من تحصل بهم الكفاية، فحينئذ تبرأ ذمة الباقين، ويسقط الحرج عنهم. وهذا الملحظ يُذْكِي الشعور بالمسؤولية عند عموم المكلفين، ويستفزهم لامتثال فرض الكفاية، كما لو كان من فرائض الأعيان.
2- ما سبق بدوره يضع الجميع أمام مسؤولياته، مع مراعاة قدراته وإمكاناته، ففرض القادر القيام بالفعل بنفسه، وفرض العاجز إيجاد القادر وحمله على القيام به.
وعليه: فالكل -في ميزان فرض الكفاية- قادر بشكل مباشر أو غير مباشر، فليس أحد عاجز عن الفعل بشكل تام، بل إن عجز عن فعل قدر على غيره.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن التراخي في إقامة فروض الكفاية (الجهاد والإعداد له مثالاً) سيعود شؤمه على الجميع، من جهة الإثم الأخروي وضياع النفع الدنيوي.
يُسْتَخْلَص مما تقدم أنه من الناحية النظرية (نقاش المسألة في ضوء فرض الكفاية) لا يتصور العجز التام عن الجهاد والإعداد له؛ لأن الكل مخاطب بما يقدر عليه، ففرض القادر أن يجاهد، وفرض العاجز إيجاد القادر وتحريضه على القيام بواجبه؛ وهذا بدوره يضيِّق باب الأعذار في هذا المقام.
ولقائل أن يقول: إذا كان العجز التام غير متصور عن الجهاد والإعداد له حال كونهما فرض كفاية، فهل يتصور عند كونهما فرض عين، كما هو الحكم الشرعي في هذه الأيام؟!
الثاني: درجات التكليف:
تواترت الأدلة -الشرعية وغيرها- على أن التكاليف الشرعية مرهونة بالقدرة والاستطاعة، فلا تكليف بدون استطاعة، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وفي الحديث: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»؛ وعليه: فالمكلَّف مأمور بأن يفعل ما أُمِرَ به إن استطاع، فإن لم يستطع سقط عنه ما عجز عنه، وفعل قدر استطاعته، وجوبًا في الواجب، وندبًا في المندوب.
والاستطاعة لها درجات؛ لأنها قد تكون كاملة وقد تكون ناقصة؛ ويترتب على هذا أن التكليف له درجات متفاوتة، ولهذا تتغير درجات التكليف تبعا لتغير درجات الاستطاعة. ففي مجال العبادة الفردي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين حين اشتكى من مرض أصابه: «صَلِّ قَائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (رواه البخاري). وفي مجال الإصلاح العام قال عليه الصلاة والسلام: «مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ» (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري).
فيما يتعلق بفريضة الجهاد، فتنقسم هذه الفريضة من حيث الوسيلة إلى أربع مراتب، هي: الجهاد بالنفس، والجهاد بالمال، والجهاد باللسان، والجهاد بالقلب. وتنقسم من حيث الجهة القائمة بها إلى أربع مراتب أيضاً: الجهاد في إطار الأمة (تحالف دولي إسلامي مثلاً)، والجهاد في إطار الدولة القُطْرِية، والجهاد في إطار الجماعة المسلمة (حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» نموذجاً)، والجهاد في إطار الأفراد (نموذج الأسود المنفردة، كأبي بصير في السيرة النبوية، وخيري علقم في التجربة الفلسطينية).
والمقصود أن الجهاد -سواء من حيث الوسيلة أو من حيث الإطار المرجعي- له مراتب متفاوتة مرتبة من الأعلى إلى الأدنى (عليا ثم وسطى ثم دُنيا)، وتقتضي أصول الشريعة أن من عجز عن المرتبة الأعلى في التكليف انتقل إلى المرتبة التي دونها، ولا ينتقل إلى السلبية واللا فعل (وهو هنا القعود عن فرض الجهاد) متذرعاً بالعجز.
بناء على ذلك، يقال: من استطاع أن يجاهد بنفسه فليفعل، فإن لم يستطع فبماله، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، والأمة أو الدولة الإسلامية إن استطاعت إعلان النفير العام وجب عليها، فإن لم تستطع فيجب الجهاد على الجماعة المسلمة، فإن لم تستطع فيجب على كل فرد أن يفعل ما بوسعه من جهاد العدو، وذلك أدنى المنازل.
إنه بالرغم من حالة الوهن الشديد التي تحياها الأمة اليوم إلا أنه يمكنها أن تضطلع بدور فعَّال في الجهاد بمعناه الضيق (القتال) من خلال تفعيل وتوجيه الجهاد الفردي، وتبنِّي الجماعة المسلمة خيار الجهاد، أما الدور الذي يمكنها الاضطلاع به من خلال الجهاد بمعناه الواسع فهو كبير بل كبير جداً.
ولك أن تتخيل دائرة الفعل القلبي والحركي التي تكتنزه مقولة المثقف المشتبك الشهيد باسل الأعرج: «لا تَعْتَد رؤية الصهيوني؛ حتى لا تألفها عينك قبل عقلك، بل افعل ما يفعله أبناء غزة حينما يشاهدون صهيونيًّا، يركضون باحثين عن حجر لرجمه به».
والمقصود أنه من الناحية العملية نقاش المسألة في ضوء درجات التكليف، فالعجز مهما بلغ يمنع بعضَ مراتب الجهاد ولا يمنع جميعَها.
الثالث: وجوب الإعداد عند العجز:
تشير المناقشات السابقة إلى أن العجز التام عن كل مراتب الجهاد ومن كل المكلفين به ليس متصوراً سواء من الناحية النظرية (فرض الكفاية) أو من الناحية العملية (درجات التكليف)؛ ومن ثمة فنحن قادرون -ولا بد- على قدرٍ ما من الجهاد وإن قلَّ. وأما القدر الذي نعجز عن القيام به، فيجب علينا الإعداد للخروج من حالة العجز، والقيام بفريضة الجهاد على نحو أوقع أثرا في نصرة الحق ومقاومة الباطل، ولا يجوز بحال التطبيع مع حالة العجز والتعامل معها كقدر محتوم.
وبخلاف الجهاد الذي يُتَصَوَّر العجزُ عنه أحياناً، فإن العجز عن الإعداد غير متصور؛ لأن الإعداد وسيلة، والفعل (الجهاد) غاية، فإذا كان العجز عن الوسيلة ممكن الوقوع، كان التكليف بالفعل (الجهاد) تكليفاً بغير مقدور عليه، وهذا ممتنع في الشريعة؛ إذ لا تكليف بغير مقدور. ومن هنا؛ يقرر العلماء أنه إذا تعذر الجهاد للعجز عنه لا يسقط فرض الإعداد بالقوة ورباط الخيل.
كنتيجة منطقية لما سبق، إذا لم نكن عاجزين -في نظر الشريعة- عن قدر ما من الإعداد، فمعنى هذا أننا قادرون بالضرورة على قدر ما من الفعل (الجهاد) بعد مضي قدر من الزمن يظهر فيه أثر هذا الإعداد، والإعداد إذا كان جادًّا فإنه يُنتِج -بمرور الوقت- مستويات أكبر من الفعل (الجهاد)، يمكن عبر مراكمة القوة ومشاغلة العدو أن يُتَرْجَم بعد حين إلى طوفان يُغْرِق الباطل ومشاريعه.