كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل الناس، وكان أعدل ما يكون مع قرابته وأهل بيته؛ امتثالًا لأمر الله تعالى له ولأمته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: 135)، فهو مستمسكٌ -ما بقي حيًّا- بالحق والقضاء بالقسط.
وقد علّم أصحابه رضوان الله عليهم ذلك، وأعلمهم أن تلك القيمة الإنسانية (العدالة) تمتد دون تمييز أو نقصان حتى إلى غير المسلمين؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) (النحل: 90)، فهي خلق كريم يبعث الأمل في الأمة بزوال الظلم وسيادة الحق.. ولن تجد أحدًا في العالمين أرحم بأهله ولا أوفى عهدًا ولا أسرع إجابة لهنّ من النبي صلى الله عليه وسلم بأهل بيته، لكـنْ لم يثنه ذلك عن قـــول وفعــل الحق في تعامله معــهن، وهــي دروس للأمــة إن أرادت الاقتداء به.
أعدل الناس
ومما ورد في كمال عدالته صلى الله عليه وسلم تفويض الله تعالى له بأن يكون حكمًا بين المؤمنين؛ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65)، فهو الحكم العدل، الذي يجب على المؤمنين الانقياد لما حكم به في حياته، والاحتكام لما شرع بعد موته، والتسليم واليقين بأن ما يحكم به هو الحق، ومما علّمه أمته: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا» (رواه مسلم، والنسائي).
والمواقف كثيرة على هذه العدالة، على نفسه وقرابته وأصحابه وزوجاته وأبنائه، والخدم والعبيد، وحتى مع المشركين وأهل الكتاب، مقرًّا بالحقوق لأصحابها ولو كانوا خصومًا، تنفيذًا لأمر الله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، مثل حكمه على المرأة الشريفة المخزومية، وحكمه في الخلاف بين الزبير والأنصاري، وفي حكمه لجعفر بابنة حمزة في النزاع بينه وبين عليٍّ، وزيد، وحكمه لليهودي بديْن له كان على جابر بن عبدالله.. وغير ذلك من هذه المواقف الجليلة.
بيوت النبي
كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أسعد زوجات الأمة؛ لما حظين تحته بمعاملة من قال الله تعالى عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، فهو يظهر لهنّ مشاعره النبيلة بالحب والتقدير، ويسعى إلى إرضائهن وتلافي غضبهن، وكان صلى الله عليه وسلم قدوة في الود واللطف، والرحمة والعشرة بالمعروف، والمبالغة في إكرامهنّ.
وكان صلى الله عليه وسلم يعوّذ ويعتني بصحتهن، ويسابقهن ويداعبهن ويمرح معهن، وكان يرفق بهن ويتواضع لهن، بل سعد أهلُ أمهات النبي صلى الله عليه وسلم بجميل شمائله وكمال أخلاقه وصفاته، وفي موقف عتق مائة من أهل جويرية، ووصيته بأهل مصر خيرًا، وغيرهما دلالة على ذلك.
عدالته مع أزواجه
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين أزواجه في القَسَمِ؛ أي في الحقوق الزوجية والمبيت وغيره، من دون تمييز، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضّل بعضنا على بعض في القَسَمِ، من مكثه عندنا» (أبو داود)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (أبو داود).
ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم -دونًا عن أمته- مخير في القسم بين أزواجه، إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم، كما قال الله تعالى له: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) (الأحزاب: 51)؛ فإنه اختار القسمة بينهن، دليل كريم خلقه وجميل معشره، كما قال العلماء.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرر السفر أقرع بينهن، كما تروي عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها» (متفق عليه).
وكان إذا أُهدي إليه شيء وزعه بينهن بالسوية، عن أنس: «أن أم سليْم -أمه- بعثته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع (طبق) عليه رطب، فجعل يقبض قبضة فيبعث بها إلى بعض أزواجه، ويقبض القبضة فيبعث بها إلى بعض أزواجه.. ثم جلس فأكل بقيته» (رواه أحمد).
وكان يحكم بينهنّ بالقسط؛ عن أنس: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعامًا في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام بطعام، وإناء بإناء» (رواه الترمذي).
ولا يزال صلى الله عليه وسلم على ذات النهج من العدالة بين نسائه حتى في مرض موته، فكان يُطاف به عليهن في بيوتهن، حتى استأذنَ بأن يمرّض عند عائشة؛ تقول عائشة رضي الله عنها: «لما ثقُل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي، فأذِنَّ له..» (رواه البخاري).
ولا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وأمته من عدم العدل بين الزوجات حتى لحق بالرفيق الأعلى، يقول صلى الله عليه وسلم: «من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» (رواه الترمذي).