مع تسارع التحولات الثقافية والتكنولوجية التي يشهدها عالمنا المعاصر يبرز سؤال جوهري حول كيفية الحفاظ على هوية شبابنا الإسلامية؟ ولعل من أبرز المناسبات التي تشكل فرصة ثمينة لترسيخ هذه الهوية هي ذكرى المولد النبوي الشريف، التي اعتادت وسائل الإعلام الرسمية بالعالم العربي صبغها بصبغة التقليد الموروث بعيداً عن عمق المعنى والمقصد؛ ما جعله عند كثيرين أشبه بـ«فولكلور» في موعد محدد، يأكلون فيه الحلوى، إلى جوار ممارسات غير شرعية أحياناً، يسمونها احتفالات المولد.
إن الخروج بالاحتفال بالمولد النبوي من شرنقة التقليد الموروث، وكذلك من شرنقة يوم بعينه، وشهر بعينه، هو فرصة متجددة لإعادة اكتشاف القيم النبيلة التي جاء بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، خاصة في عصرنا الحالي حيث تتنافس الهويات والثقافات على جذب انتباه الشباب؛ ولذا بات من الضروري إيجاد سبل مبتكرة لربط هذه المناسبة بواقع الشباب وتطلعاتهم، وهذا الربط بات من الواجبات شرعا وفق القاعدة الأصولية: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
تبدو أهمية هذا الربط ماثلة أمام حقيقة أن 68% من الشباب المسلم في أوروبا يشعرون بالحاجة إلى تعزيز ارتباطهم بتراثهم الديني والثقافي، بحسب دراسة أجرتها جامعة كامبريدج في عام 2022م، والواقع أن هذا الشعور ليس بعيداً عن الشباب في بلداننا الإسلامية التي تتعرض فيها أدمغتهم لمحتوى إعلامي يبث قيم التغرب والابتعاد عن قيم ومبادئ دينهم.
من هنا، فإن استثمار مناسبات مثل المولد النبوي في تلبية هذه الحاجة الملحة بات بمثابة واجب الوقت من جانب وتطبيق عملي للتوجيه الإلهي في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21) من جانب آخر.
وإزاء ذلك، من المهم أن تطرح الأسر ومؤسسات التعليم والإعلام في بلداننا إجابات عملية عن السؤال: كيف يمكننا توظيف الوسائل الحديثة لتعزيز الارتباط بين المولد النبوي والشباب بما يعزز هويتهم الإسلامية في مواجهة طوفان المحتوى التغريبي؟ وفي تقديري أن رأس هذه الإجابات يجب أن يكون حاضراً في بيت الداء، أي هواتفهم المحمولة، التي يتلقون فيها محتوى التضليل.
تطبيقات ذكية
إن استخدام التكنولوجيا الرقمية بات بمثابة حتمية وضرورة تفتح آفاقًا واسعة لنشر السيرة النبوية وقيمها بطرق تتناسب مع اهتمامات الجيل الجديد، فعلى سبيل المثال؛ يمكن تطوير تطبيقات للهواتف الذكية تقدم قصصًا تفاعلية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنشاء منصات للتواصل الاجتماعي مخصصة لمشاركة الدروس المستفادة من السيرة النبوية.
ومن شأن ذلك استخدام مثل هذه الوسائل في نشر المعرفة الدينية، خاصة المعرفة بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، أن يزيد من إقبال الشباب على التعلم عن قيم وتعاليم دينهم بنسبة زيادة تصل إلى 45%، حسبما أشارت دراسة نشرتها مجلة «دراسات الشباب المسلم» في عام 2023م، وهي نتيجة تؤكد الفعالية الكبيرة لاستخدام الوسائط الرقمية في تعزيز الهوية الإسلامية لدى الشباب بعيداً عن الأساليب التقليدية الأقرب إلى نموذج الفولكلور.
لكن الارتباط بالمولد النبوي لا يقتصر على الجانب المعرفي فقط، بل يتعداه إلى الجانب العملي والسلوكي، وفق هديه صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني)، وهو ما يذكرنا بأهمية ربط الاحتفال بالمولد النبوي بتطبيق القيم الأخلاقية في حياتنا اليومية، وذلك عبر ربط جانب المعرفة بسيد الخلق بطلب تفاعلي يساهم في تعديل سلوك الشباب وتوجيههم نحو امتثال القدوة من نبيهم الكريم، وهو ما يسميه خبراء التسويق الرقمي «Call to action».
ومن الأفكار المبتكرة لتحقيق هذا الهدف، ربط المحتوى المعرفي بمبادرات تطوعية باسم المولد النبوي تشجع الشباب على المشاركة في أعمال الخير والمساعدة المجتمعية، إذ إن مثل هذه الأنشطة تساعد في ترجمة القيم النبوية إلى واقع ملموس؛ مما يعزز الشعور بالانتماء والهوية الإسلامية.
كما أن تنظيم مسابقات إبداعية حول السيرة النبوية، سواء في مجال الكتابة أو الفنون البصرية أو الإنتاج الرقمي، يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتشجيع الشباب على التعمق في دراسة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتطبيق دروسها في حياتهم المعاصرة، وهو في الوقت ذاته تطبيق للوصية النبوية في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» (رواه البخاري).
وهنا لا يمكننا أن نغفل دور الأسرة والمجتمع في تعزيز هذا الارتباط، خاصة في ظل واقع استمرار دور المنزل والمسجد في عملية التربية، فالشباب الذين يشاركون في احتفالات المولد النبوي مع عائلاتهم ومجتمعاتهم يظهرون ارتباطًا أقوى بهويتهم الإسلامية بنسبة 30% مقارنة بأقرانهم، بحسب دراسة نشرتها مجلة «International Journal of Islamic Education» في عام 2021م؛ ما يعني أن تقديم المحتوى الإلكتروني دون ربط الطلب التفاعلي بالبيت والمسجد سيظل ذا أثر منقوص.
إن تعزيز الارتباط بين المولد النبوي وهوية الشباب المسلم في العصر الحديث مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الأفراد والمؤسسات على حد سواء، فمن خلال الجمع بين تراثنا والوسائل التكنولوجية الحديثة يمكننا خلق جسر متين يربط الشباب بجذورهم الإسلامية، ويمكنهم من مواجهة تحديات العصر بهوية قوية وراسخة.
هكذا يمكننا إحياء ذكرى المولد النبوي بشكل متواصل ومستمر طوال العام، وبطرق مبتكرة وملهمة، وبما يساعد على تحقيق الهدف النبيل في واقع شبابنا، ويسهم في بناء جيل مسلم واعٍ بهويته، متمسك بقيمه، وقادر على المساهمة الإيجابية في مجتمعه وعالمه، وإلا فإن مناسبات الفولكلور أحرى بعالم التسلية لا عالم التربية على أسس الهداية التي وجه إليها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.