حرص النبي صلى الله عليه وسلم دائماً على معرفة قوة أعدائه وحصر عددهم وعدتهم، بل إنه كان يبث العيون لاستطلاع أحوال أعدائه ومعرفة ما يدور بينهم من كلام وما يرسمون من خطط، ففي صحيح مسلم عن حذيفة قال: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ النبي صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَقَالَ: «قُمْ يَا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ»، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ».
وفي هذا الموقف ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يستهين بقوة عدوه، بل يحرص على معرفتها وإعداد العدة لها، وكان ينتدب لها من أصحابه ما يراه أهلاً لها، وإن التهوين من قوة العدو أمر مطلوب، حتى لا يخاف المجاهد أو يتولى يوم الزحف، لكن المشكلة الحقيقية أن يبالغ المسلم في هذا التهوين أي التقليل من شأن العدو وقوته، لأن هذا يؤدي إلى مشكلات خطيرة وعواقب وخيمة، وفيما يأتي بيان بعضها:
أولاً: ضعف الاستعداد للمواجهة:
المبالغة في الاستهانة بقوة العدو تدفع إلى التخلي عن الإعداد الجيد أو التكاسل عن ذلك، بحجة أن الانتصار على هذا العدو الضعيف لا يحتاج إلى إعداد وتخطيط، وهذا مخالف لما أمر به القرآن، حيث قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وإن التفريط في إعداد القوة يعرض المؤمنين للهزيمة، حيث إنهم يستهينون بقوة عدوهم في الوقت الذي يستعظم فيه العدو قوتهم، فيعد لهم أعظم الإعداد، حتى إذا جاء وقت المعركة، كان النصر حليف المستعد الذي وضع خططه وأخذ بالأسباب المؤدية إليه.
ثانياً: سوء اختيار القيادات العسكرية:
من آثار الاستهانة بقوة العدو الاستخفاف باختيار القادة العسكريين، بأن يكون الاختيار من غير المختصين والأكفاء، فينعكس ذلك على العمل الجهادي، ويترتب عليه هزائم وخسائر فادحة، فالواجب أن نحسن اختيار القيادة العسكرية التي تجمع بين قوة الإيمان والقدرة الفنية والكفاءة الشخصية، دون محاباة أو مجاملة.
وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لكفاءته وأبقى عليه، واستعمله أبو بكر الصديق، قائلاً: «لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد»(1).
ومما يدل على وجوب الاختيار الجيد للقيادة العسكرية ما ثبت عن الإمام أحمد بن حنبل حين سُئِلَ عن الرَّجُلَيْنِ يَكُونَانِ أَمِيرَيْنِ فِي الْغَزْوِ، وَأَحَدُهُمَا قَوِيٌّ فَاجِرٌ وَالْآخَرُ صالح ضعيف، مع أيهما يُغزَى؛ فَقَالَ: أَمَّا الْفَاجِرُ الْقَوِيُّ، فَقُوَّتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَأَمَّا الصَّالِحُ الضَّعِيفُ فَصَلَاحُهُ لِنَفْسِهِ وَضَعْفُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيُغْزِى مَعَ الْقَوِيِّ الْفَاجِرِ(2).
ثالثاً: الارتجال والعشوائية:
تتحكم النظرة للعدو في حسن الإعداد أو عدمه، فإذا أدركنا قوة عدونا فإننا نحسن الإعداد لمواجهته، وإلا فلا، وفي حالة المبالغة في الاستهانة بالعدو، نتجه نحو التراخي والارتجال، مما يترتب عليه العشوائية وسوء تقدير المواقف، وإن تنوع أدوات الحرب الحديثة وتطور آلياتها يفرض علينا وضع الخطط المبنية على دراسات ومعلومات حقيقية، تدرك الواقع وتتوقع الاحتمالات وتعرف أساليب الأعداء كما تفيد من الدروس والأخطاء.
رابعاً: الإعجاب بالكثرة:
يترتب على الاستهانة بقوة العدو أن يفرح المستهين بوفرة أسلحته وكثرة عدده، وإن النفس المعجبة بكثرة عددها أو وفرة سلاحها تمتلئ بالغرور والكبر، حيث تعتقد أنها بالعدد والعدة تستطيع أن تحقق النصر، وذلك اعتماداً على العدد وحده، ناسية أو متناسية أن العدد قد يكون كبيراً لكنه ضعيف، وأن العدة قد تكون متوفرة لكن لا تجد من يحسن استخدامها، هذا بالنظر إلى الواقع المادي فقط.
أما الحقيقة التي يجب إدراكها فهي اليقين بأن النصر لا يأتي بالقوة المادية وحدها، بل لا بد من الاعتماد على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، واستمطار العون والتأييد منه، فما النصر إلا من عند الله، قال الله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 126).
وإننا إذا اعتمدنا على الأسباب وحدها، فسيكلنا الله إليها، ويحرمنا نصره وتأييده، وقد أوضح القرآن أن الإعجاب بالكثرة والفرح بقوة العدد والعدة والاعتماد على ذلك دون اللجوء إلى الله واستمداد العون والنصر منه تعالى لا يؤدي إلا إلى الهزيمة، أما الاعتماد على الله والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب فإن هذا هو سبيل النصر، حيث قال الله عز وجل: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) (التوبة).
خامساً: الشعور بالغرور والتعالي عند النصر:
يصاب المبالغ في الاستهانة بقوة عدوه بداء الغرور والتعالي بعد أن ينتصر على عدوه، وهذا خطر عظيم؛ لأن المسلم المجاهد ينبغي أن يشكر ربه على نعمه، وأن يكون شعوره بالعزة مليئاً بالتواضع والاستغفار والذكر لله تعالى، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة عندما دخل مكة فاتحاً منتصراً، كان متواضعاً مطأطئ الرأس خشوعاً لله واعترافاً بفضله في تحقيق هذا النصر(3).
____________________
(1) تاريخ الطبري (2/ 602).
(2) السياسة الشرعية: ابن تيمية، ص 15.
(3) طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف، ص 110.