بقلم فضيلة الشيخ: محمد عبدالله الخطيب
الشباب الحائر ضحية واقع يرتع فيه إعلام موجه وثقافة فاسدة ونماذج تافهة تروِّج لقيم نفعية شهوانية تقدس المال.
ابن خلدون يوضح أهمية تعليم القرآن للشباب في مناهج الدراسة وأثره في تثبيت العقيدة ورسوخ الإيمان.
جاءتني هذه الرسالة من شاب حائر كما يقول إنه ما زال في سن الشباب تتقاذفه أمواج الشك، وتتنازعه تيارات مختلفة ولا يدري أين يذهب؟
ويطلب الأخذ بيده إلى بر الأمان.. يقول في رسالته:
«لقد هب على الشباب الكثير من الأفكار المستوردة من هنا وهناك، والهدف منها الفتنة والتشكيك في العقيدة والدين الإسلامي كله، وهي مستمرة في بث السموم وأنا واحد من الَّذين سقطوا بعد عجزهم عن مقاومة أفكار الإلحاد، ولقد انتابني الشك حول أصل الدين، ووجود الله، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبحت أتصور أن الكون جاء صدفة وأنا الآن في كهف مظلم، وعالم موحش وأنا الآن أحس بالشقاء وأبكى كثيرًا وألوم نفسي، ولكن دون نتيجة إيجابية، وأنا لم أعد أطيق الحياة، وأحس بأنني مسلم اسمًا.. نعم أصلى وأصوم وأقرأ القرآن.. لكنى لا أحس ولا أشعر بطعم الإيمان، وأصبحت إنسانًا انطوائيًا أحب الجلوس بمفردي، لا أكلم أحدًا ولا أسمح لأي إنسان أن يكلمني.. فماذا أفعل؟ وما هو الحل لي ولأمثالي من ضحايا المخربين والمجرمين من العلمانيين والملحدين؟» مسلم حائر!
ضحية الإهمال
وأقول بعون الله تعالى: هذه رسالة مهمَّة تتناول عدةَ قضايا يجب أن توضح:
أولًا: أنت ضحية من ضحايا الإهمال والتقصير من جوانب متعددة، وأستطيع أن أقول إن أسرتك الَّتي نشأت فيها لا تعرف شيئًا عن التربية وصلاح البيت والأولاد ولا يهمها أيضًا -غالب المسلمين اليوم- أن ترسخ الإيمان بالله في قلب مؤمن، ولا تحرص على ترسيخ الفهم الصحيح، ولا اليقين كسلاح يحمى الأبناء من موجات الإلحاد والشك وهمزات الشياطين ومكر الليل والنهار.
إن الأولاد في كنف آبائهم يحتاجون إلى كل وسائل الإصلاح وتقويم العوج، وتهذيب الوجدان حتى تنشأ أنت وأمثالك على الخلق الإسلامي الكامل والأدب الاجتماعي الرفيع، وفي الحديث أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله.
نعم أنت وأمثالك من الشباب الحائر ضحايا واقع طاحن يرتع فيه إعلام موجه وثقافة فاسدة ونماذج تافهة كلها تروج لقيم نفعية شهوانية، قيم تقدس المال فقط فهو الوثن المعبود من دون الله وهو بيده حل جميع المشاكل، قيم تجعل الفقر قرينًا للعار والانحطاط، جاء على لسان أحد الممثلين: (مفيش عار أكبر من الفقر) مفضلًا بذلك أن يتهم بعار الطعن في شرف أخته عن أن يتهم بعار الفقر، أنت ضحية المدرسة والمعهد والجامعة والبيت والشارع تمثيلية مزيفة كبيرة جدًا، كلها كذب في كذب.. أدت إلى ما أنت فيه.
لقد غاب عن الشباب كل ما يتصل بالمنهج الرباني وتعاليم الإسلام من عقيدة وعبادة وأخلاق وتشريع ونظام، فعلي أي شيء يتربى الشباب وكيف يلقن الشباب أصل العقيدة ومبدأ التوحيد والإيمان؟ كيف يحصن من الضياع والشك؟ أين الأيدي الأمينة يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ فذلك وقاية لكم من النار»، ويقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن الكريم».
وأشار ابن خلدون في مقدمته إلى أهمية تعليم القرآن للشباب وتحفيظه، وأوضح أن تعليم القرآن يجب أن يكون هو أساس التعليم في جميع المناهج الدراسية في مختلف البلاد الإسلامية؛ لأنه شعار الدين يؤدى إلى تثبيت العقيدة ورسوخ الإيمان، أين كل هذا؟
التشخيص والعلاج
ثانيًا: لقد أحسنت إذ سألت، وما أمرك الَّذي حدثت عنه بعجيب، وهنا يكمن مفترق الطريق بين أوهامك والحقائق الَّتي أتحدث بها إليك وإلى أمثالك من الحيارى، فترى من الحقائق الَّتي ذكرتها في رسالتك أنك على حالة حسنة -إن شاء الله- مهما أسأت الظن بنفسك، فلقد آنست من رسالتك ولومك لنفسك ويكأنك وخوفك من الله ما جعلني أقول هذا، وينبغي عليك التوبة السريعة مِمَّا اتهمت به نفسك من عدم الإيمان فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال صلى الله عليه وسلم: «أوقد وجدتموه»؟ قالوا نعم قال: «ذاك صريح الإيمان».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: «تلك محض الإيمان».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه يعرض بالشيء، لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به» الحممة الفحم وكل ما احترق من النار، أي والله لأن يحترق أحدنا حتى يصير فحمةً أحبَّ إليه من التكلم بذلك الشيء الَّذي يجده في نفسه، فضلًا عن الاعتقاد به قال صلى الله عليه وسلم: «أوقد وجدتموه؟»، أي قد حدث هذا الوسواس؟ وقد وجدتم منه في صدوركم هذا الانقباض والضيق.
وزيادة في الإيضاح لهذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى أنه من المتوقع حدوث الوساوس للمؤمنين على هذا الوجه والحمد لله أن صدورهم لم تنشرح لها ولم ترض بها، بل يحس المسلم بالضيق والانقباض.
ثالثًا: ولقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم له أن تقابل هذه الوساوس بالآتي:
1- اللجوء إلى الله والاستعاذة به فقد جاء في الحديث «الشيطان جاثم على قلب ابن آدم؛ فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس» ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (رواه مسلم).
2- مقاومة ذلك الوسواس وعدم الاستسلام لهذه الخواطر فقد روى الشيخان عن أبي هريرة (فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله ورسله)، وفي رواية (فليستعذ بالله ولينته).
وفي رواية ثالثة فليقل: «الله أحد الله الصمد لم يلد ولو يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم».
روى أبو داود عن سماك بن الوليد قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت والله ما أتكلم به: قال: شيء من شك؟ وضحك ثم قال: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذين يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾ (يونس: 94)؛ فإذا وجدت في نفسك شيئًا فقل: «هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير»، ويقول المفسرون لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في شك ولا كانت به حاجة إلى السؤال وإنما افترض فيه افتراضًا، كما يفرض المحال مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ (الزخرف: 81)، وهذه الآية لزيادة إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقول للواثق بمحبتك «إن كنت في شك من محبتي فأسأل الناس».
3- الإعراض عن هذه الأمور بمجرد الإحساس بها، والاشتغال بغيرها من طاعة الله حتى يقهر الشيطان، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذين اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201).
4- يجب عليك أن تترك هذه الوحدة الَّتي تعيشها، وأن تتخذ إخوة لك من أهل الخير والصلاح، وأن تحافظ على الجماعة في المسجد وأن تكثر من تلاوة القرآن، فالذئب يأكل من الغنم القاصية، ومسالك الشيطان كثيرة، وفي زيارة أخ لك في الله، أو سماع حديث من عالم عامل يغسل القلوب، ويرطب النفوس، وبه تتنزل الرحمات، وعليك بلزومك السنة المطهرة والالتزام بأحكامها وآدابها، فإن الإيمان ينبت ويثمر في هذه الأجواء المعطرة، قال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولًا».
5- إن مصاحبة الأخيار، ومجالسة العلماء والقرب من المؤمنين والتعامل معهم من الأمور الَّتي لا خيار للمسلم فيها بعد أن أمرنا الله بهذا فقال للنبي ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (الكهف: 28).
هذه الآيات ليست كلمات، بل هي أنوار في طريق المؤمنين آيات يرددها المسلم فلا يشبع منها، فصبر النفس مع الَّذين يقبلون على ربهم يريدون وجهه هو الَّذي يطرد الاضطراب والوساوس الَّتي يبتلى بها المؤمن إن ما يصيبنا من شكوك مرجعه إلى اختلاط الحقائق على النفس والاسترسال وراء الشبهات، وذهاب بعضها في بعض حتى تختلط الأمور علينا.
نعم نص هذه الآية الواضح يلزمنا أن نصبر أنفسنا مع المؤمنين نصاحبهم ونجالسهم، ففيهم الخير هم أصحاب القلوب المتجهة إلى الله عز وجل لا يبغون جاهًا ولا متاعًا ولا انتفاعًا، وفيها النهي الواضح الَّذي يلزمنا أن نبتعد عن الغافلين الَّذين ماتت قلوبهم وطمست معالم الحق في نفوسهم، وصرفهم الله عن طريق الحق، فهم أحلاس الشيطان وعُبَّاُد الدنيا والشهوات هم المرضى الَّذين تنتقل منهم جراثيم الفساد إلى الأصحاء، لا يستحقون إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله.
مسؤولية الأسرة والمجتمع
6- على من تقم المسؤولية؟ إن شبابنا لا تقع عليه وحده مسؤولية تصرفاته وانحرافاته السلوكية والعقيدية، إن له شركاء يستحقون الدخول معه في قفص الاتهام وأوَّل الشركاء الأسرة، وبعدها المجتمع، ولو احتكمنا إلى القانون في هذه القضية لوصلنا إلى هذه النتيجة إن القانون يقول: إن لكل جريمة فاعلًا أصليًا، وقد يكون معه شركاء، والفاعل الأصلي قد يكون أقل من الشريك في المسؤولية.
فمثلًا الصبي الَّذي أهملته أسرته ولم يلق توجيهًا أو تربية ولم يجد في أبويه أي صفة من صفات الخير، بل وجد كلا منهما يكذب على الآخر، بل وجدهما يحرضانه بالأفعال على الشر، إذا ارتكب جريمة تكون مسؤولية الآباء أشد من مسؤولية الأبناء.
إن بعض الشباب على الرغم من أنهم هم الَّذين يرتكبون الأخطاء إلا أن الآباء هم الشركاء لا نعفيهم من المسؤولية أبدًا «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
الشباب الَّذي لا يجد بين يديه إلا الأفكار الَّتي تشكك في العقيدة، والأقلام الَّتي تنال من الدين، والأقلام الَّتي تحض على الإغراء وتدفع للخطأ، من غير رقابة من المنزل وتوجيه من المدرسة وضبط له هل يعتبر وحده المسؤول عن خطئه؟!
إننا نوجه الاتهام إلى من صنع الفيلم ومن سهل عرضه أو تداوله، وعلى الآباء الَّذين لم يقودوا هؤلاء الأبناء إلى المسجد وإلى مصاحبة الأخيار والصالحين، ولم يتعهدوا الأبناء ويوجهوهم إلى العمل بدينهم، إن الاتهام يجب أن يكون صريحًا وعادلًا ومنصفًا، وقبل أن يوجه إلى الشباب يجب البحث عن الشركاء والمحرضين، حتى إذا دخل الشباب قفص الاتهام فإنه لن يجد نفسه وحيدًا، بل سيجد معه الآباء وكل من أسهم في غوايته وإضلاله، حتى وقع فريسة للملحدين والمضللين من بقايا الشيوعية وأذناب العلمانيين.
الله عز وجل أسألُ أن يجمعنا وإياك على الحق، مع الصالحين والعلماء والعباد.. هدانا الله جميعًا إلى ما يحب ويرضى(1).
_______________________
(1) منشور في العدد (1124)، جمادى الآخرة 1415هـ/ 8 نوفمبر 1994م.