الفقع
خلال فصل الربيع من كل عام يحل على مائدتنا ضيف عزيز، وطعام شهي لا يفوقه في اللذة والندرة شيء عندنا.
إنه “الفقع” أو “الكمأ” الذي لا يختلف على عشقه اثنان في جزيرتنا العربية، وهو هبة الله الخالصة التي لا يتدخل الإنسان في زراعتها أو رعايتها.
و”الفقع” لمن لا يعرفه: فطر بري على شكل درنة كدرنة البطاطس يظهر في الربيع، ويكثر في المواسم التي يهطل فيها المطر باكراً في فترة “الوسم” التي تعد بداية فصل الشتاء لدينا، وهي تمتد بين منتصف أكتوبر حتى بداية ديسمبر.
ويبدأ موسم التقاط الفقع عادة في أواخر شهر يناير، ويستمر حتى نهاية فبراير، ويمتد أحياناً إلى مارس.
وسنحاول في الموضوع التعرف عن قرب على هذا الفطر المدلل في المائدة العربية، والتجوال معه في رحلته الطويلة مع العرب.
لـ”الفقع” أسماء كثيرة، وهو في الأساس نوع من أنواع “الكمأ”، وهو الفطر المستدير الذي ينشأ في الطبقة الرملية القريبة من سطح الأرض على بعد سنتيمترات قليلة.
فـ”الكمأ” قديماً هو الاسم الجامع لهذا النوع من الفطر، وإن كان يطلق لدينا الآن على النوع الغامق من “الفقع”.
و”الفقع” جمع مفرده “فقعة”، وربما جاء الاسم من كونه فقاعة تخرج من الأرض كما تخرج فقاعة الماء منه.
وقد وردت في “الفقع” و”الكمأ” أحاديث عديدة، وذكرت منافعه، فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم عشرة أحاديث تتكلم عن فضل “الكمأة”، ومنها ما ورد عن عمرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “الكَمْأَةُ من المَنِّ وماؤُها شفاءٌ للعَيْن” (رواه البخاري ومسلم)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “الكَمْأَةُ من المَنِّ الذي أَنزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ على بني إسرائيلَ وماؤُها شفاءٌ للعَيْنِ” (رواه مسلم).
وتحدث عن فوائده بعض علماء العرب، فقال أبو عبيد: “المراد بالكمأة أنها كالمن الذي كان يسقط على بني إسرائيل سهلاً بلا علاج، فهكذا الكمأة لا مجهود فيها ببذر ولا سقي”.
وقال ابن سينا: “الكمأة يخاف منها الفالج والسكتة، وماؤها يجلي العين, وهي أصل مستدير لا ساق له، ولا عرق، لونه إلى الغبرة كالقطن يوجد في الربيع تحت الأرض”.
وروى الطبري عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم عن أكلها، وقالوا: هي جدري الأرض، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إن الكمأة ليست من جدري الأرض ألا إن الكمأة من المن، وماءها شفاء للعين”.
قال المرزوقي في “الأزمنة والأمكنة”: “الفقع” ضرب من “الكمأة” أبيض، فإن استبشر في أول الزمان، وإلا شق الأرض عن نفسه، وظهر ثم يصفر إذا تطاولت به الأيام، واشتد الحر، ولذلك قال الساجع: “إذا طلعت الهقعة أدرستِ الفقعة، وتعرض الناس للقلعة، ورجعوا عن النجعة”.
وفي تراثنا الشعبي أقوال متعددة في “الفقع”، فمنها ما جاء في التحذير من أكله نيئاً، حيث إنه قد يسبب عسراً في الهضم مع وجود العوالق الترابية المحيطة به، وفي ذلك يقول المثل الشعبي: “كل رأس الحية، ولا تأكل الفقعة نية”، وقولهم في التحذير من مغبة الإكثار من أكله، وما قد يسببه من أمراض بعكس الجراد الذي يفيد أكثر، فقالوا: “إذا جاء الفقع صر الدوا، وإذا جاء الجراد انثر الدوا”.
أنواع “الفقع”
لـ”الفقع” لدينا أنواع، هي:
1- الزبيدي، ولونه يميل إلى البياض، وحجمه كبير قد يصل إلى حجم البرتقالة الكبيرة، وأحياناً أكبر من ذلك.
2- الخلاص، ولونه أحمر، وهو أصغر من الزبيدي، ولكنه في بعض المناطق ألذ وأعلى في القيمة من الزبيدي.
3- الجباه، ويسمى الحمّرة أيضاً، ولونه أسود إلى محمر، وهو صغير جداً.
4- الهبيري، ولونه أسود، وداخله أبيض، وهذا النوع يظهر قبل ظهور الكمأة الأصلية، ولا يتجاوز حجمه حجم حبة الحمص، وهو يدل على أن الكمأة ستظهر قريباً، ويعتبر الهبيري أردأ أنواع الكمأة، ونادراً ما يؤكل.
و”الفقع” ينمو على هيئة درنات تتفاوت في الحجم، فقد يصغر بعضُها حتى يكونَ في حجم حبَّة الحمص أو يكبُر ليصلَ حجم البرتقالة، وقد يتجاوزه ليملأ الكف.
وللعرب في أنواع “الفقع” مقولة طريفة هي: “الزبيدي للوليدي، والخلاصي قناد راسي، والحمّره للمره”!
ومن طرق حفظه قديماً تقطيعه على شرائح، ثم تجفيفه على بيوت الشعر أو سقوف المنازل في الهواء الطلق لاستعماله خلال فترة الصيف.
ويتواجد “الفقع” أو “الكمأة” بكثرة في صحاري دول الجزيرة العربية والخليج العربي، والعراق، والشام، وسيناء، وبلاد المغرب.