13 فبراير 2025

|

دروس نتعلمها من الموت وفقد الأحبة

بعد مرور خمس سنوات على وفاة أبي ــ الله يرحمنا ويرحمه ـــ في رمضان 2020 تبين لي أن للموت دروسًا لا تتوقف بمرور الأعوام وأن تجربة الإنسان الفردية البحتة مع الموت لا يضاهيها شيء. فنحن نسمع عن الموت كل يوم وربما في اليوم أكثر من مرة، ولكننا مرورنا بالتجربة أمر مختلف برمته. ومن هذا المنطلق فقد اكتشفت في نفسي وفي بعض من حولي أن الإنسان يستمر في التعلم من تجربة الفقد والموت إلى أن يموت! ولكن الجانب الحسن في الأمر والذي يدل على رحمة الله بعباده هو تلك الدروس والحكمة التي ينزلها الله على عبده فتهون عليه ولو شيئًا يسيرًا من ألم الفقد، وتعطيه دفعة للانطلاق في الحياة رغم الألم وفي صحبته، ليستمر في عمل الصالحات والإكثار منها لتنفعه هو والميت يوم لا ينفع مال ولا بنون. 

كما أن حدوث ذلك الابتلاء في رمضان بالذات يجعل الإنسان يتفكر صغر هذه الدنيا، ونعمة أن يبلغه الله "الحياة" في ذلك الشهر العظيم وأن يستكمله. فكثيرون يدعون بأن يبلغوا رمضان ولا يبلغونه أو يبلغونه ولا يتمونه كما كان الحال مع أبي الله يرحمه. لذا أعرض هنا لبعض الدروس التي استخلصتها من تجربتي المريرة لفقد أبي الغالي – رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى ــ عسى أن يكون فيها نفع لمن مر بتلك التجربة أو يمر بها، وتكون موعظة لنا جميعًا ونحن مقبلين على شهر رمضان الفضيل من جديد :

  1. عدم فهم حقيقة الموت إلا بمواجهته:

    فمهما كنا متفهمين لحالة مريض أو أي إنسان مبتلى بأي من أنواع الابتلاءات، فإنه لا يمكن فهم تلك الأمور على حقيقتها إلا بمواجهتها فعليًا، سيما الموت. وذلك أن الناس في معظمهم ـــ ولا نستثني المسلمين مع الأسف ــــ متمسكون بالحياة أيما تمسك وكأنها آخر الأمل أو هي الحياة السرمدية التي يتطلعون لها. بل إن البعض يتمسك بحياة أي حياة وإن خلت من العافية ومن القدرة على عبادة الله، وهو ما خُلقنا من أجله في الأصل، بينما لا يتسم بتلك الخصلة إلا اليهود، حيث يقول تعالى:  "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ". (سورة البقرة: 96).

  كذلك ترجع الصعوبة في فهم الموت وتقبله إلى عدم الاستعداد له من جهة، وعدم فهم حقيقته من جهة أخرى. فالكثيرون ينظرون للحياة على أنها الفرصة الأخيرة للقاء بالأحباب والاستمتاع بالنعم والملذات، وهذا من سوء فهم دين الإسلام والموت. فالموت بالنسبة لنا نحن المسلمين ليس النهاية وإنما هو بداية لحياة أبدية في جنة الخلد بإذن الله. والحرص إذن يجب أن يكون على جمع الأعمال الصالحة لا التعلق بالدنيا والبشر. 

  1. لا تَنْفر من مشاعر الحزن والرغبة في البكاء:

  فما يحدث في الغالب بعد أن يتجاوز الإنسان ستة أشهر أو عام من الفقد أنه قد يبدأ في لوم نفسه على استمرار مشاعر الحزن والألم والشوق للميت في داخله، والأدعى من هذا أنه قد يشعر بأن تلك المشاعر تعيقه عن المضي قدمًا في الحياة وتحقيق أهدافه أو الاستمرار فيما كان يقوم به من أعمال! والحقيقة أن سبب هذا الصراع النفسي هو لبس كبير في ربط مشاعر الحزن على فقد الميت بالمضي قدمًا في الحياة. فعلى الإنسان أن يكون صادقًا وصريًحًا مع نفسه، وأن يدرك أن مشاعر الحزن قد لا تغادره أبدًا، بل وقد تصاحبه فيما بقي له من عمر، وليس في هذا ما يسبب الرعب أو القلق. فنحن كمسلمين نعلم يقينًا أن الحياة لا تصفو لأحد ولا تخلو من كدر. فعلى المسلم من جهة تقبل مشاعر الحزن تلك واستمرارها خاصة إذا كان قريبًا جدًا من الميت وعاش معه لفترة طويلة. ومن جهة أخرى ليعلم أن الله كريم رحيم و قطعًا سيهون عليه وسيرزقه بأسباب وأشخاص يهونون عليه مرارة الفقد، وأنه لن يقضي جميع دقائق حياته في حزن ولكن سيتخلل الحزن الكثير من الساعات والأوقات والذكريات فلا بأس في ذلك. وبدلًا أن يجعل المسلم هذا الابتلاء سببًا للحزن والبكاء واجترار الذكريات الأليمة، فليكن سببًا للإكثار من الدعاء للميت وعمل صدقة جارية وغيرها من الأعمال الصالحة التي تنفعه بعد موته وانقطاع عمله.

  1. لا تقم بأي قرارات ضخمة في فترة حزنك

   فكما أن الحزن على الميت يدفعنا للدعاء له وإخراج الصدقات. فمشاعر الحزن لها مصاحبتها السلبية من المشاعر والدوافع كالغضب والانغلاق الشديد على النفس، والعزلة التامة عن الناس لشهور، والرغبة في الهروب من أماكن الذكريات. وكل هذه الأمور قد تُدخل الإنسان في حالة اكتئاب مزمن، والتي قد تترك أثرها مستقبلًا على نفسه وطريقة تفكيره وإن زالت بعد حين. وبالتالي يرجح أخصاء الطب النفسي ـــ وكذا من تجربة شخصية ـــ أن يؤجل الإنسان أي قرارات ضخمة وجوهرية في حياته بعد مرور ستة شهور على الأقل، أو إلى أن يشعر بأنه بكامل قواه العقلية والنفسية والعاطفية وليس منطلقًا بقراره هذا من تجربة الفقد. ومن أضخم القرارت: الزواج، الطلاق، البدء في عمل جديد وتغيير المسيرة المهنية بالكامل، السفر... إلخ. وقطعًا لكل قاعدة استثناءات وإنما الحديث هنا بشكل عام وبناء على كثير من البحوث والدراسات النفسية في هذا الأمر. 

  1. ضرورة استغلال الفرص المتاحة مع الأحباب:

   من أكثر الصفات التي كان يستخدمها أبي رحمه الله عن وصف الحياة هو أنها "مدة يسيرة". ومع هذا لا يلبث الإنسان يؤجل خططًا وأهدافًا مع أحبابه، وعلى رأسها قضاء الوقت معهم في سبيل اللهاث وراء الدنيا، والجري وراء الدنيا لا ينتهي. وتبين لي أهمية هذا الأمر جليًا عند وفاة أبي الله يرحمنا ويرحمه ورؤية الناس المقصرة في حقه يندبون حظهم على ما فرطوا وقصروا ولكن هيهات!

  1. إعداد الأهل والأبناء للموت:

   فلا يهتم الكثير من الآباء بالتحدث مع أبنائهم عن الموت وبيان أنه حقيقة يقينية وأنه ليس وحشًا كاسرًا نخاف منه كحال غير المسلمين، بل هو نهاية هذه الدنيا الفانية وبداية لحياة خالدة طيبة في الجنة بإذن الله. وأنه لضمان هذه الحياة الخالدة لابد أن تكون الدنيا بالنسبة لهم دارًا لجمع الأعمال الصالحة والحسنات لا لتكديس المال والركض خلف الشهوات. وهذا لن يحدث إلا بتعديل ثقافة الآباء أنفسهم عن الموت وتمسكهم بالدنيا بحجة حرصهم على أبنائهم، مما يجعل الأبناء بدورهم يقتدون بآبائهم ويتهافتون على الدنيا. وحين يموت أحد الأبوين أو كلاهما يُصدم الابن صدمة العمر، ويحزن حزن الجازع العاجز، ويتوقف مسار الحياة بالنسبة له. وذلك أنه لم يتعلم أو يدرك حقيقة الدنيا والهدف من عيشنا فيها، ويقينية الموت وضرورة الاستعداد له، وتقبله عند حدوثه. ووما قاله أبي ــ رحمه الله ــ فيما يتعلق بالموت: 

"إن الموت شديد الوقع على النفوس لأن البشر بشكل عام مع الأسف يمنون أنفسهم بالأمل وتخدعهم الأماني ولا يستعدون أبدًا للقاء الله عز وجل. فعلى الرغم من أن الموت هو الشيء الوحيد اليقيني في حياة كل البشر على اختلاف مللهم وخلفياتهم الدينية، فإنهم في غالبيتهم لا يؤهلون أنفسهم لهذه اللحظة ولا لذلك اليوم". 


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة